قصة قصيرة "ابن الخديعة"
بقلم الأديبة منى البريكي
قالت محدثتي و هي تغالب دمعها:
"أريد يا سيدتي أن أبثك شكوايا لعلي أظفر عندك ببعض السلوى ، لقد كنت فتاة يافعة ،ضاحكة .أحلق في سماء الأحلام بلا قيود.كنت أبهر كل من حولي برقتي و جمالي و كان زملائي في الدراسة يتسابقون لكسب ودي لكني لم أكن أعيرهم اهتماما و لا أقيم لنظراتهم وزنا إلى أن التقيت بمن خلته لزمن فارس أحلامي و حب حياتي .
يومها ركبت الحافلة التي تقلني الى الجامعة فجلس بجانبي شاب طويل القامة ،أسمر اللون ،أجعد الشعر و أول ما لفت انتباهي لمعان حذائه و سرواله الأزرق المكوي بعناية .بادلته ابتسامة صوبها نحوي بعينيه السوداوين الضيقتين و لاحظت اعوجاج أسنانه البيضاء و عدم انتظامها. كان يمسك دفترا بكلتا يديه و كانت أصابعه طويلة جدا مقارنة بأصابعي و لوهلة تخيلت أنه يمسك يدي فيحتويها بكفه العريض و لا أعرف الى اليوم لماذا ابتسمت خلسة و أغمضت عيوني لاستمتع باللحظة و حين فتحتهما وجدته يتأملني سائلا : "أين تدرسين يا سناء ؟"اندهشت لمعرفته إسمي و سألته باستغراب :"هل تعرفني ؟من أين لك بإسمي ؟"
فأجابني بأنه سمع صديقتي تناديني ببهو مشرب الكلية
و حين وصلنا وجدته يرافقني الى الداخل وأنا أحدثه و أضاحكه و كأنني أعرفه من زمن .
سكتت محدثتي لتمسح دمعة نافرة فسألتها :"و أين هو اليوم ؟"
أجابت بحزن:" لقد رحل يا سيدتي دون سابق إنذار و لم يترك لي عنوانا محددا فكل ما أعرفه أنه جنوبي .
لقد طار كفراشة كلما أمسكت جناحيها أستحالت يبابا ،و بقي طيفه لا يكاد يفارقني و لا ينفك عني ، أراه في لون الغيوم ،في عبير الياسمين ،في رقة النسائم و في تغريد الطيور ، يحيط بي كقدر لا مفر عنه ، خيط من نور ينساب إلى ملامحي وانا قابعة في ظلمة الفراق أنتظره و أتشبث به كغريق متعطش لجرعة هواء فلا تزيدني إلا وجعا.
ماذا تراني فاعلة و انا أتنفس عطره و أسمع الأغنيات التي يعشقها و أرتاد الأماكن التي جمعتنا فأكون كمن يجري وراء سراب يحسبه بقيعة ظمآن ؟"
نظرت إليها باستغراب و سألتها باستنكار:"كيف تبقين على عهد من رحل و لم يأبه لمشاعرك !؟عيشي ،انطلقي و استمتعي و انزعيه من قلبك و من تفكيرك."
استسلمت لشهقات دمع خنقتها و ردت ييأس :"كيف لي ان أنساه و قد ترك بداخلي بذرة فخ دخلته بكامل إرادتي و دون روية لما كان بحسباني أنه أحبني حبا صادقا و اختارني رفيقة دربه؟.لقد أقنعني بزواج عرفي أمضيت فيه وثيقة سجني الأبدي على وعد منه بإشهار زواجنا متى تحسنت الظروف و حصل على وظيفة تليق بالشاب الذي سأقدمه لأهلي.
حين رحل كنت حاملا بابني الذي بلغ منذ أيام سنتين من العمر و قد نطق كلمة أمي دون أن يرى أباه .ابني الذي أخفيته عن كل من يعرفني و أودعته عند سيدة طيبة توفيت أخيرا لتتركنا وحيدين عاريين أمام مجتمع لا يرحم . "
ودعتها بعد أن طمأنتها بأن القانون سيأخذ مجراه و لن أتوانى لحظة عن تحقيق العدالة و إثبات هوية طفلها البريء و بعد ثلاثة أسابيع استقبلتها بمكتبي و هي تحمل أيسم مبتسمة و تقول لي :" شكرا لك أيتها المحامية القديرة لولاك لم أكن لأفتك لقبا لابني من أب تنصل من كل مسؤولياته نحوي و رحل غير آبه بألمي فنتيجة التحليل الجيني الذي طلبته كانت كافية ليسقط في يده و ينهار أمام القاضي معترفا بأبوته ."
بقلمي :منى البريكي/تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق