المحبة أولاً...
بقلم الأديب عبده داود
قصة 3.6.2020
قرعت ايمان باب الإدارة، قالت للمديرة: قرأت في لوحة إعلانات مديرية التربية إن مدرستكم بحاحة لمعلمة وكيلة...
سألتها المديرة عن خبرات سابقة في المجال؟
قالت ايمان بخجل، الحقيقة ليس لي سابق تجربة في التعليم، أنا محاسبة خريجة جامعية بدرجة جيد جداً، أبحث عن عمل في مجالي... لكنني لم أجد وظيفة حتى الآن...
تحادثت مديرة المدرسة مع الشابة ذات الخامسة والعشرين من العمر، وقالت متأسفة يا آنسة، لا يسمحوا لنا في الوزارة بتوظيف معلمات او معلمين، ما لم يكونوا من ذوي الاختصاص...
ثم أردفت قائلة: لكننا بحاجة الى محاسبة في المدرسة بعد شهرين، لأن محاسبتنا ستتقاعد ونحن سنكون بحاجة الى محاسبة جديدة في المدرسة، لذلك سأقبلك معلمة بالوكالة حتى تتقاعد محاسبتنا، وبعدها ستنتقلين الى قسم المحاسبة...ملأ الفرح قلب المحاسبة...
أضافت المديرة، لكن مشكلتنا، هي طلاب الصف الخامس، كسالى، مشاغبين، لا يحبون العلم ولا المدرسة... عدة معلمات هربن من الصف قبلك بسبب سوء سلوكهم...
قالت المديرة للتلاميذ: الآنسة ايمان ستكون معلمتكم، ارجو أن تكونوا لطفاء معها، ومجتهدين حتى تكون هي مسرورة منكم، وتكونوا أنتم مسرورين منها...
بمجرد ما خرجت المديرة من قاعة الصف، حدث زلزال شغب في القاعة، صفير، وزمير، وزعيق، وضحكات، وخبط على المقاعد، وتفجير بوالين، باختصار، التلامذة لا يريدون معلمة ولا معلم... اصلاً لا يريدون التعلم، ولا يريدون المدرسة...
قالت المعلمة للتلاميذ: أنا مثلكم لا أحب المدرسة ولا العلم...دعونا نخرج نلعب بالطابة، أحلى من البقاء في الصف...
استمرت المعلمة تلعب معهم بالكرة، وتروي لهم القصص والحكايات، وتغني معهم، وتسامح المشاغبين وتلاطفهم...
أمضت المعلمة الأسابيع الأولى بالتعرف على طلابها وطالباتها، قرأت سجلاتهم المدرسية، وتحادثت معهم عن احوالهم، وأحوال اهاليهم...ورويداً، رويداً، امتصت انفعالاتهم واكتسبت صداقتهم...
التلامذة أحبوا معلمتهم، وأحبوا دروسهم اللاتي تعلمهم إياها، كانت تريد طلابها أن يفهموا الذي يتعلموه لا أن يحفظوه...
كانت تدرك بأن الفهم يبقى في الذاكرة، اما الحفظ بدون الفهم يضيع ويتلاشى...
لم تكن تعطيهم وظائف منزلية، كانت تدرك بان ساعات المدرسة كافية ولا يجوز ارهاق الطالب بمزيد من التعب...
كانت تعرف واجب المعلمة بأن تجعل تلامذتها مستوعبين دروسهم ضمن الصف، لا خارجه.
بعدما أحب التلاميذ المعلمة، أحبوا دروسها، وأحبوا المدرسة التي كانوا يأتون اليها قسرا أو رهبة من أهاليهم، صاروا يحبون البقاء في المدرسة وممارسة النشاطات المختلفة فيها برعاية معلمتهم... وكانت هي تعلمهم كيفية التعامل بود ومحبة واحترام مع اهاليهم، واخوتهم، وجميع الناس...
وكانت تتفنن في توصيل المعلومات لعقول الأولاد وتسلط الضوء: كيف هم يستفيدون من المعلومات المدرسية في حياتهم اليومية...
جعلت الطلبة يشعرون بان معلمتهم صديقتهم الحقيقية، وبيت سرهم، وليست آمرتهم، أو سجانتهم، هي أحبتهم محبة حقيقية، وبالتالي صاروا هم يحبون معلمتهم ويحبون دروسهم ومدرستهم...
الأهالي أحسوا التغير في سلوكيات أولادهم داخل البيت وخارجه، وتحسنت الفاظهم، وطرق تصرفاتهم مع اهلهم ومع اخوتهم...ونظافتهم غير المعتادة.
انتهت خدمة المحاسبة القديمة، جاء مسئول من مديرية التربية، تشكر محاسبة المدرسة القديمة، وقدم لها مظروفاً فيه شيكاً مالياً عن استحقاقاتها المالية...
كما تشكر (المعلمة الوكيلة) التي ستستلم قسم المحاسبة، وقال لها الحقيقة قد سمعنا عنك الكثير من حسن نشاطك في المدرسة كما اخبرتنا المديرة عن امتنان الأهالي منك. نتمنى لك حظاً ونجاحاً مماثلاً في الأعمال المالية.
وأيضاً قام بالتعريف بالأستاذ الجديد للمدرسة. ووصفه بانه من خيرة المعلمين في المديرية، وأخيراً ودع الجميع وغادر المدرسة.
قالت المديرة سوف نقيم حفلة تكريمية للمحاسبة المحالة على المعاش، ونرحب بالمحاسبة الجديدة، ونرحب بالأستاذ الجديد...
قامت الترتيبات والزينات والمعلقات في المدرسة، وأرسلوا بطاقات دعوة الى أهالي الطلبة لذاك الحفل...
يوم الاحتفال رفعوا العلم وأحضروا الورود لزينة المدرسة، والمرطبات والحلويات لضيافة الأهالي...
ألقت مديرة المدرسة كلمة ترحيبية بالحضور أثنت فيها على خدمات المحاسبة القديمة، ومرحبة بالأستاذ الأصيل للصف الخامس، ولم يترك أهالي تلاميذ الصف الخامس الفرصة للمديرة حتى تنهي كلامها، وعلا صفير لم يحدث مثله من قبل...
الأمر أهالي طلبة الصف الخامس يطالبون المدرسة بإبقاء المعلمة الوكيلة في الصف وتأصيلها واعتمادها رسمياً، وجعلها معلمة دائمة في المدرسة... غير ذلك سوف لن يرسلوا اولادهم للمدرسة، لأنهم لم يروا أولادهم بمثل هذا النشاط والرغبة في التعلم مثل هذه الفترة
قالت المديرة: الأستاذ الجديد اخصائي بتربية التلاميذ. والمعلمة اختصاصها محاسبة ...
قالوا نريد معلمة الصف أن تبقى معهم وتنتقل معهم للصف السادس، وإلا لن نرسل أولادنا للمدرسة... قبل أن تكتبي لنا تعهد بانتقال المعلمة مع أولادنا للصف السادس,,,
فعلاً في اليوم التالي لم يحضر طلاب الصف الخامس، ولا اليوم الذي تلاه، والذي تلاه... وشعرت المديرة بالإحراج. ركبت سيارتها وذهبت الى مديرية التربية والتعليم... قالت لهم (هذه سابقة لم نواجه مثلها من قبل)...
الأهالي بقوا مصرين على عدم ارسال اولادهم الى المدرسة في حال أصرت المدرسة على نقل المعلمة الوكيلة...
المعلمة الوكيلة أضحت فخورة بذاتها من هذا الموقف المشرف من الأهالي، ولكنها تأثرت لوضع الشاب الاستاذ الجديد المنقول الى المدرسة، وكانت تلاطفه وتقول له انت الأصيل يا استاذ، ونحن من بعدك وستدخل الى صفك دون ريب...
تفاقمت مشكلة صف الخامس، اجتمعوا في مديرية التربية...وقالوا مشكلة المدرسة هذه لم تصادفهم من قبل...واحتاروا كيف يتصرفون...
أخيراً جاء وزير التربية بالذات الى المدرسة ليتعرف على هذه المعلمة الوكيلة التي لخبطت الوزارة واحرجتها. كذلك خطفت قلوب الطلبة وقلوب أهاليهم...
تحدثت المعلمة الوكيلة، على الأساليب التعليمية والتربوية التي تمارسها في الصف...
وقالت: (المحبة وصداقة التلاميذ) هي الاساس، وتابعت: لا معنى لحشر المعلومات في ادمغة الطلبة، لمجرد أن يحصلوا على علامات أكثر وعندما يخرج الطالب من الامتحان يقذف بالكتب، وتتبخر أغلب المعلومات من ذهنه بدون رجعة.
والشيء الأهم. المدرسة ليست سجناً، يدخلها الطلبة مرغمين، ولا يصدقون متى يدق جرس انتهاء الدوام حتى يركضون هاربين، علينا أن نجعل الطلبة يأتون الى مكان يبهجهم ويتمنون البقاء فيه لا الهروب منه... وقالت، وقالت...
كان واضحاً اعجاب الوزير من كلام المعلمة الوكيلة. ابتسم وقال مبروك لك يا آنسة أنا فهمت لماذا الأهالي يحبونك...لذلك ستبقين بصفك، معلمة أصيلة (وهذا استثنائي) لكنني اتمنى أن يتعلم باقي المعلمين هذا المنطق التعليمي. منطق المحبة، ومصادقة التلاميذ...
بعد عامين، اختاروا مديرة المدرسة الحالية، لتصبح من الموجهين الأولين في المديرية ولمراقبة المدارس في المحافظة...
تمت الموافقة بالإجماع على تعيين المعلمة ايمان مديرة في المدرسة خلفا للمديرة المنتدبة...بتذكية من الوزير الذي يحاول أن يرفع منطق العقاب، ويعلم المعلمين المنطق الجديد في التعليم، منطق المحبة والتربية أولاً...وثم التعليم...
الأستاذ الأصيل صار مفتشاً مدرسياً يدور على المدارس بين الحين والحين...
كذلك يزور المديرة ايمان ويحتسيان القهوة ويتحادثان في سير الأمور المدرسية...
صار يكثر من التردد على تلك المدرسة بحجج يختلقها، كما باتت ايمان تنتظر حضوره وتشتاق له...
شعر الأثنان هو وهي بأن حبهما لبعضهما قد ملأ قلبيهما، وباتت النظرات التي تتقاطع تقول الكلمات التي يتوق أن يقولها القلب...
قال الأستاذ: آنسة ايمان أتذكرين عندما جئت لأدخل الى صف الخامس وعارض أهالي التلاميذ حضوري قطعياً...
منذ ذلك الحين وانت تشغلين حيزاً كبيراً في فكري،
أنا اليوم أطلب الدخول الى حياتك، هل تستقبليني؟
ابتسمت ايمان ابتسامة تعنى الموافقة: وقالت دعنا أولاً نسأل أهالي تلاميذ الصف الخامس عن رأيهم...
تزوج المفتش والمديرة...هما يعيشا بسعادة لأنهما يفهمان معنى المحبة...
بقلمي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق