أنا وأولادي والمطر
بقلم الدكتورأحمد الشربيني
(( قصة قصيرة)) دخل الأب كعادته فى جوف الليل يتحسس طريقه إلى باب منزله النائى عن العمران باحثا عن عنوان الرحمة والحنان الذى نام لتوه الآن ...دلف إلى حجرته هاد هموس لا يحس له حسيس متخففا من معطفه الشتوى الذى أثقل كاهليه وطوق عنقه طيلة نهار ممطر...وهاهو يلقى نظرة حانية على حجرة ملائكية تقابل فى براءة حجرة نومه حيث مخدع أنفاسه التى تلتقط نصيبها مما تبقى فى هذا الليل المظلم وبرده القارس من دفء الدثار ولهيب الأنفاس المنتظرة فى لهفة قدوم الرئة الثانية!!! وقف الأب الحانى بعيد خطوات من صغاره وهم يغطون فى نوم عميق قائلا فى نفسه...أبنائى الأعزاءعندما يأتى المساء وأراكم نائمين فى جوف الكساء وحضن الغطاء يذهب عنى التعب والوهن والعناء..ها هو البرق يداعب وجوهكم الملائكية فى حنو وهاهو الرعد يقرع أسماعكم بطبوله ومزاميره وكأنها كورال جماهيرى فى مدرجات ملعب الحياة ..أتصفح قسماتكم أترقب أنفاسكم أدثر ماتعرى من أطرافكم فى كلب الشتاء ..يرينى البرق بين الحين والحين آيات الطفولة والبراءة تهادن أناملكم وأرجلكم التى تعلوها شفاه تعزف أنغام السلام والوئام بعد هدنة على دخن وأنفاسكم المشبعة بنصب اللعب والركض وراء الكرة والتجوال فى الأزقة وفرع الحقول..كلها تنبئ بمستقبلكم الوضاء وهاهو كل منكم يعانق لعبته فى رباط أبدى طفولى لا ينبت وكأنه يعانق مستقبله المشرق .فأرقب فى جباهكم الغر كيف ينحنى الدهر ويتوقف القدر أمام براءة أقوى من البلاء والوباء والغلاء والأوصاب والإرهاب. الكل يعانق لعبته فهذا يحضن قصة وأخر يمسك كرة مطاطية وثالث يصحب دبابة بلاستيكية ....ها أنا ألمح نجلتى الكبرى تبدو على ضوء البرق وكأنها جدتى التى طالما أحببتها..لا أنسى تلك الرقدة الأصيلة وهى تغفو قليلا أمام الفرن فى ليلة العيدفوق لفائف القش المتراكمة كالهرم الأصغر منتظرة تسوية حبات الفول السودانى.و...ألمح فيكم عالما صوفيا وقلبا نقيا وسمتا شربينيا يسبح الله فى الهزيع الأخير من السحر ..أرقب فيكم طبيبا يعالج الأوصاب ويهدئ الأعصاب بقلب يواسى فى المصاب..بمشرط يؤسى جراحات الأم والأمة ويرفع عنها سقام الغمة..أري من بينكم رياضيا فتيا يركض بالكرة وراء حلم طال انتظاره لعله يعانقه فى كاس العالم بروسيا أو شمس اليابان ...أرى فيكم الفنان والرسام الذى يمسك بفرشاة أحلامه ليرسم بأصباغ الزمن وألوان الأمل أفراحا وأتراحا ليلا وصباحا ضحكا وصياحا لهوا وكفاحا فيبدع لوحات تتابع على جدار الزمن ويبرز من خلالهاتقاسيم زمن ولى وحاضر يتثنى ومستقبل يتجلى ...ألمح فى أحدكم تقاسيم أبى البطل وهو يعبر القناة ليعانق أرض الفيروز...أشعر فى أنفاسكم المتصاعدة على استحياء سنفونية روحية أنغامها ملائكية تعيد إلى مرفأ الذاكرة صورة جدي الصوفى الأزهرى وكأن تلك الأنفاس العزبة صوت حبات مسبحته وهو يذكر الله فى هزيع الليل وقت السحر فى ليلة قرة من شهر رمضان جالسا بجوار موقد الفحم البلدى المطعم ببعض كوالح الذرة. لينتظر نصيبه من قدح شاي الراكيةالذى هو أبطأ عليه من فند... وبجواره جدتى تتبلغ بكسرات من الخبز المجفف المحمص على موقد الراكية ..تقرأ وردها المعتاد قبيل السحور..أبنائى أطالع فيكم أجدادا غبروا وآباءا عبروا وأسلافا رضوا وصبروا..وفجأة يصحو الصغار على صوت الرعد يعانقون والدهم الذى لايرونه إلا لماما ويخرج الأب وأطفاله إلى الشرفة يبتهجون بسقوط أمطار الربيع وهى تقبل الأرض والبرق يزف إليهم فرحة الاحتفال بمهرجان الطبيعة......والأب وأطفاله يغنون ويصرخون ثم يدعون فى خشوع وابتهال ساعة سقوط المطر ... بيد أن القرية ماتزال تغط فى نوم عميق!!!
دكتور/أحمد الشربيني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق