بلاد التاريخ
قصة
كانت إحدى هواياتي ركوب الدراجة الهوائية، أمتطيها في الربيع وأعبر عليها بساتين بلدتي النبك، ريف دمشق، أتنسم الهواء النقي، وأستنشق أريج زهور المشمش والزهور البرية التي تزين المزارع، وتعطر الأجواء، ذلك يشعرني بان الحياة قد عادت من جديد، بعد شتاء بلدنا الصقيعي الجارح...
اليوم وصلت إلى مغارة الإنسان القديم في يبرود القريبة من بلدتنا.
فوجئت بمجموعة سواح أجانب يزورون المغارة...شابين وأربع صبايا...
تكلمنا بالإنكليزية، وعرفت منهم بأنهم وافدون من الدانمارك.
قالوا: جئنا نزور التاريخ، حيث ولد التاريخ. واسعدهم إنني خريج كلية التاريخ من جامعة دمشق.
استضفت المجموعة في منزلنا في النبك، ورحب أهلي بهم أي ترحيب، وأحيينا لهم سهرة لطيفة، حضرها أصدقاؤنا والجيران...
في اليوم التالي رافقت الطلاب وأريتهم ما اشاده الدانماركيون في بلدتنا النبك في أربعينات القرن الماضي، ومنها الكنيسة الإنجيلية، والمستشفى الدانماركي. والمدرسة الدانماركية...
بعدها ذهبنا إلى دير مار موسى الحبشي والذي يعود تاريخه إلى ما قبل القرن الرابع... الكائن على جبل النبك الشرقي, (جبل المدخن)
فرح الطلبة عندما وجدوا أنفسهم يزورن دير للرهبان وكنيسة من أقدم كنائس العالم، كذلك أسعدهم كثيراً بان الدير قدم لهم الإقامة النظيفة والمريحة مع الطعام الشهي، وكل ذلك مجاناً...
أفرح الطلبة كثيراً وجود مكتبة في الدير، تحتوي المخطوطات والكتب التاريخية التي صارعت الزمن لتبقى ناطقة...
زرنا عدداً من الاديرة الموجودة في المنطقة، ومنها دير مار اليان في القريتين، ودير مار يعقوب المقطع في قارة، والكنائس القديمة في يبرود، ومعلولا وصيدنايا والمعرة، وأيضاً كنيسة حنانيا في دمشق التي لا تزال تروي قصة زيارة القديس بولس عميد الكنيسة اليها....
ولم نتمكن من زيارة الأديرة العديدة الموزعة على أرض سورية بسبب قصر المدة المحددة لرحلتهم.
والملفت، جميع هذه الكنائس والأديرة قريبة بالمكان من بعضها البعض مما يدل على كثافة الوجود المسيحي السرياني في سورية آنذاك...
استكمل الطلبة دراستهم، وقرروا متابعة الرحلة إلى الأردن وفلسطين.
تم الوداع الحار بينهم وبين رهبان دير مار موسى الحبشي، وكانت الدموع تملأ مقلهم...
بينما كنا ننزل على الدرج الصخري، كانت نينا تعاود النظر إلى الخلف، تبكي وتلتقط الصور للدير، فجأة تفركشت، ووقعت، وتدحرجت، وعجزت على النهوض، وصارت تصرخ من الألم...
ساعدناها وحملناها إلى السيارة في أسفل الوادي، إلى مشفى القلمون. (مستشفى الدانماركي سابقاً). أظهرت صور الاشعة السينية كسوراً في ساقها مما توجب اجراء عمل جراحي لها، وتلبيس الساق بقالب من الجبصين الصلب...قال الطبيب: يجب أن ترتاح نينا لمدة شهر على الأقل بدون حراك، وتحت مراقبتي...
أصاب المجموعة الهستيريا، كيف سيتركون نينا في النبك، ووقتهم لا يسمح لهم، وعليهم إنجاز مهمتهم الدراسية، ووقت الرحلة كاد أن ينفذ ومن الذي سيبقى معها في سورية، ألف سؤال وسؤال، ولا جواب مقنع واحد...
قالت أمي، اذهبوا أنتم، نينا ستبقى عندي في البيت معززة مكرمة، وبعدما يسمح لها الطبيب بالسفر، سنوصلها إلى المطار، أرجو ألا تحملوا هماً على الاطلاق...
خصصنا للمريضة غرفة خاصة، ووضعنا في غرفتها جهاز تلفاز، وأيضا خط أنترنيت مفتوح لتتواصل مع أهلها، ومع زملائها وجامعتها ساعة تشاء.
نينا غير إنها في غاية الجمال، عرفناها بمنتهى الرقة، واللطف، والروح الطيبة، وجميعنا أحببناها كثيراً.
أنا بذلت كل طاقتي لإسعاد نينا، ومتابعة الدراسة معها، واحضار المراجع الخاصة لأبحاثها التي تطلبها، وحتى التي لا تطلبها......
كانت هي تصورني، وتصور أهلي بموبايلها، وترسل الصور إلى أهلها في الدانمارك، وتطمئنهم عن حالتها، وكم هي سعيدة مع هذه العائلة الطيبة.
أهل نينا أرسلوا لنا مبلغاً كبيراً من المال هدية لقاء استضافتنا ابنتهم، الحقيقة لم تكن الهدية منتظرة ولا مطلوبة، رغم فقرنا آنذاك، لأننا كنا نعتبر الذي نفعله محبة، وواجب إنساني علينا...
والد نينا أستاذ جامعي في كلية التاريخ في جامعة كوبنهاجن، طلب من أبنته أن تسألني إذا كنت أرغب في إتمام دراستي في الدانمارك، لأحصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ، ربما سيوفر لي بعثة مجانية لإتمام دراستي هناك...
بالنسبة لي كان هذا مجرد حلم لا أتجاسر حتى أن أحلم به...طار صوابي فرحاً بهذه الخبرية، وبسرعة البرق ترجمت أوراقي الثبوتية وأرسلتها...
تماثلت نينا للشفاء، ودعناها في المطار، ودموعنا جميعا باحت بحبنا لها...
تحقق قبولي في جامعة كوبنهاغن. سافرت ودموع أهلي أبت أن تجف...رغم سعادتهم لسعادتي التي وصلت لحد النجوم...
استقبلتني نينا وأهلها في المطار، وأحست بأنهم يحملون لنا أنا وأهلي الكثير من الود، وخاصة نينا كانت عيناها تفضحان أسرار قلبها...
بدأت أنا دراسة اللغة، وكنت أتابع مع نينا دراستها، حتى حان موعد مشروع تخرجها في الجامعة
نجحت بتفوق، وهنأتها اللجنة الفاحصة، وقالوا لها تستحقين نيل الإجازة في التاريخ بجدارة، على هذه الدراسة المتقنة الشاملة والموثقة...
تشكرت نينا اللجنة، وتشكرت كل الذين ساعدوها على إتمام دراستها، وقالت: أخص بالذكر صديقي وأستاذي كمال السوري، وأشارت لي، وطلبت مني الحضور لأقف بجانبها على المنصة وقالت: هذا هو سر نجاحي، كمال هذا هو الذي يستحق الشهادة، وروت لهم قصة وجودها في سورية...بل قصة حبها الذي خبأته في قلبها...لأنها خشيت أن تعذبني إذا لم أتمكن من اللحاق بها، وقالت: تمنيت لو يعرف كم أحببته..
أخذ كمال مكبر الصوت وقال: أنا أحببتك عشقاً وخشيت أن أصارحك بما يخبئه قلبي، فأتعذب وأعذبك معي... الآن أهديك قلبي يا نينا هل تقبلينه هدية متواضعة مني؟
قالت: قلبك سيجعلني أسعد انسانة في الوجود... لكن قلبي لم أعد أملكه، أنتم خطفتموه مني، أنت وأهلك في سورية...أنا الآن أهبك كل حياتي يا كمال، أنا عرفت الحب الحقيقي في بلادكم... عرفت الحب هو العطاء بدون مقابل... أنتم علمتموني الحب...
تزوجنا ونحن نعيش قصة حب لا تنتهي صار أولادنا في المدارس، ونينا تحضر لنيل شهادة الدكتوراه في تاريخ الشرق القديم. ونحن نزور سورية. ونينا تزور دير مار موسى الحبشي كلما سحنت لها الفرصة. أولادنا يتعلمون العربية من أولاد الحارة في النبك بلهجتها العامية ذات الجذور السريانية الأصيلة، كما يتكلمها أهل ضيعتي... وأنا سعيد بذلك.
الكاتب: عبده داود
آذار 2023
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق