*أضغاث أحلام*
كان منذ الصّبى شغوفا بالمطالعة و قراءة القصص، و قد
دأب على تصفُّح كلّ ما تقع عليه عيناه من مجلّات و جرائد
و كتب مطالعة بِنَهم و شراهة. كانت أفضل أوقاته حين يختلي في غرفته بنفسه، و يندمج مع أبطال القصّة الّتي بين يديه، فيجتمع معها و يصافحها و يحاورها و يصاحبها.. فكانت تملأ أوقات فراغه سعادة و بهجة و معرفة..كانت أفضل حصّة دراسية لديه حصّة التّرغيب في المطالعة، حيث كان يجد متعة لا مثيل لها و هو يقدّم القصّة الّتي طالعها، أو الّتي ألّفها أمام أقرانه. و يزداد تعلّقه بالمطالعة حين يسمع مفردات الثّناء و الإطراء من لسان معلّمه السّيّد صالح الّذي كان يشجّعه باستمرار أمام أترابه، فيشعر بسعادة غامرة تجعله يحلّق في الفضاء الرّحب مع كلمات المديح المُحفّزة كطائر مبتهج يداعب خيوط الشّمس بمنقاره، و يلاعب السّحب الشّفّافة بجناحيه ، خاصّة حين يصرّح معلّمه أمام تلاميذ الفصل بأنّ بسّام سيكون له شأن عظيم في مجال الأدب عامّة، و فنّ كتابة القصّة خاصّة، فيشعر بالفخر
و الاعتزاز، و تشحنه كلماته شحنا معنويا تجعله يزداد حرصا على المطالعة، و التهام الكتب بجميع أنواعها التهاما، و كتابة القصّة و الأقصوصة و الشّعر، فنالت كتاباته رضا الإطار التّربوي بالمدرسة، و ازدادت طموحاته، فقرّر أن يكون أديبا مشهورا...
مرّت الأيّام و الشّهور و الأعوام سريعا، و نمت معها موهبة الكتابة لدى بسّام. و ها هو اليوم قد تخرّج من كلّية الآداب،
و نال الأستاذية بملاحظة حسن جدّا، و أصبح يمنّي النّفس بالعمل كمدرّس في إحدى معاهد الجمهورية التّونسية، أو مدارسها الاعدادية، أو الابتدائية ليساعد أباه في إعالة العائلة، فجراية تقاعده أصبحت بالكاد تكفي لتوفير ضروريات الحياة في ظلّ تضاعف نسبة التّضخّم، و الارتفاع المشطّ للأسعار في البلاد. لكن لم يسعفه الحظّ في نيل مبتغاه رغم مرور خمس سنوات على تخرّجه استغلّها في الكتابة، فأنتج مجموعتين قصصيتين و ثلاث مجموعات شعرية، دون أن يقوم بطبعها
و نشرها لأنّ الإمكانيات المادّية كانت تعوزه، فطرق العديد من الأبواب، لكنّه لم يسمع من المسؤولين سوى كلمات التّسويف
و المماطلة، فجميع دور الطّباعة و النّشر تلهث وراء أعمال الأدباء و الكتّاب المشهورين، و تتبنّى أعمالهم، و نادرا ما تجد دارا للطّباعة و النّشر تقبل بتبنّي أعمال احد الأدباء المبتدئين
و تتكفّل بجميع مصاريف الطّباعة و النّشر و التّوزيع بعد الاتّفاق معه على نِسب الأرباح من المبيعات المنتظرة، فشعر بالحزن و الاكتئاب و الإحباط.. و لو لا نشره لكتاباته في الجرائد و المجلّات و المنتديات الإلكترونية لتوقّف نهائيا عن الكتابة، و لدفن طموحاته إلى الأبد، فقد أعطته هذه الفضاءات الأدبية المرموقة جرعة من الأكسيجين لمواصلة الإبداع،
و فتحت أمامه نوافذ الرّجاء و أبواب الأمل..
واصل بسّام الكتابة بكلّ عزم و تحدٍٍّ للعراقيل، رغم محاولات الإحباط الّتي تعرّض لها، و ها هو اليوم يحتفي بأوّل مجموعة قصصية صدرت له، و هو في قمّة السّعادة و الانشراح أثناء حفل توقيع مولوده الأوّل "أضغاث أحلام" ، و قد كان مُحاطا بثلّة من الأدباء و الشّعراء المشهورين، و جمع من المصوّرين
و الصّحفيّين، حيث كان يطوف بينهم مبتسما، يتلقّى من هذا التّهاني و من ذاك الإطراء و المديح، وعلامات الرّضا بادية على وجوههم.. فجأة استفاق من غفوته، و فرك عينيه بيديه لتنتهي في لحظة أضغاث أحلام يقظته، فوجد نفسه في غرفته وحيدا كئيبا مع قلمه و أوراقه، أنيسه في وحدته..
و بينما هو على تلك الحالة النّفسية الصّعبة رنّ جرس هاتفه،
و إذا بالسّيّد مراد، مدير دار الإبداع للطّباعة و النّشر، على الخطّ يطلبه و يستحثّه للحضور إلى مكتبه في أسرع وقت ممكن لأمر يهمّه...
كمال العرفاوي في 30 / 04 / 2023
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق