قصة قصيرة ...
رجل المقابر :::
في عمر الثالثة عشر اتخذ قراراً بالهروب بعد شجار مع والده الذي لم يكن يهتم بتربيته رغم أنه إبنه الوحيد؛ كان الفقر المؤثر الرئيسي على سلوك الأب وعدم الاهتمام بابنه بعد أن توفيت زوجته بسبب مرض أصاب رئتيها.
قرر الياس بالهروب من قطاع غزة متوجهاً نحو الحدود الإسرائيلية مقتدياً بغيره وهم قِلة ممن سلكوا الهروب إليها نتيجة مشاكلهم مع أهاليهم أو رسوبهم وفشلهم في مدارسهم، ورغم قلة عدد من هربوا إلا أن تلك الحالات شكلت ظاهرة مُخجلة.
وكان يتم اعتقال الشباب الذين يجتازون الحدود يتعرضون للمحاكمة والسجن سنوات في السجون الإسرائيلية وما أن تنتهي مدة سجنهم يتم تسليمهم لقوات الطوارئ الدولية التي تقوم بدورها تسليمهم للحكومة في قطاع غزة، وبعد التحقيق معهم يتم تسليمهم لأهاليهم.
لم يتم اعتقال الطفل الياس بعد أن اجتاز الحدود وتمكن من الوصول لبعض أقاربه من الذين بقوا في مدينة يافا ولم يهاجروا بعد حرب عام ١٩٤٨ ؛ احتضنه أقاربه وحافظوا عليه وما أن أصبح في عمر الشباب زوجوه من أحد فتياتهم واستقر به الأمر في مدينة يافا فانجب من الأبناء ثلاث أولاد .
عمل الياس عاملا على رصيف ميناء يافا يقوم بتحميل وتنزيل البضائع من الشاحنات المتوقفة على رصيف الميناء قبل أن يتشاجر مع أحد العمال فقام بطعنه بآلة حادة اخترقت قلبه فتوفيَّ في الحال .
لم يكن أمام ألياس إلا الهروب من مدينة يافا وقرر أن تكون وجهته إلى المكان الذي أتى منه قبل أكثر من ثلاثين عاماً وهو قطاع غزة؛ فتمكن من التسلل عبر السياج الحدودي حيث وصل إلى مدينة غزة التي بدت له بأن تغيراً كثيراً طرأ عليها وعلى شوارعها وسكانها وشعر بالغربة بين الناس الذين لم يعد يعرف منهم أحداً وكان يظن إنهم قد يتذكرونه وهو طفل ، إلا أن الجميع انكر أ معرفتهم به وأنهم لم يتذكروه ، ومن تذكره كان يلفه الخوف منه بعد أن شاع خبر هروبه إلى إسرائيل وأصبح لديه بطاقة شخصية إسرائيلية كمواطن من عرب الثماني وأربعين.
لم يكن لديه مكان يأويه قليلاً ونهاراً ومن حرارة الشمس والصيف ومن برد الشتاء؛ فاستقر به تفكيره وهو يبحث بين أشجار أحد المقابر عن مكان يرقد فيه فوقع نظره على أحد القبور القديمة جداً المهجورة وهو عبارة عن غرفة تحت الأرض لها باب خشبيّ قديم يقود إلى داخله ، فدخل وقام بتنظيف المكان وأزاح عظام الموتى إل الجانب الآخر من القبر وقام بفرش ببعض قطع من الورق المقوى وأغلق باب القبر وقضى تلك الليلة صامتاً منهكاً إلى أن وأفاق مع ظهيرة اليوم التالي حيث قام بجولة في سوق المدينة فكان كل من شاهده يظن انه شخص أجنبي من لباسه وشعره الأشقر الطويل الذي يتدلى حتى كتفيه الأمر الذي جعل الجميع يتوجسون منه خيفة وعند سؤاله من قبل العديد من الناس فكان يسرد عليهم قصته بروايات مختلفة ، فمنهم من ظنه بأنه يهودياً آخرين ظنوا أنه مسيحياً وهو باعترافه أنه غير مسلم.
تمكن الياس من شراء فرشة و سادة وغطاء من بعض النقود التي كانت معه وهي نقود إسرائيلية لم تُثر شبهات بشأنه لأن تلك العملة متداولة في القطاع .
على مدى أكثر من عقدين من الزمن تمكن الياس من بناء علاقات صداقة سطحية مع بعض الباعة المتجولين حيث كان من خلالهم يضطلع على الكثير من أمور الحياة والأحداث التي تجري في القطاع والمناسبات المختلفة التي يتم التحضير لها والتجمع بشأنها في ميدان فلسطين ( الساحة )، وعلى مدى تلك المدة الزمنية تمكن من الصداقة مع أحد الثعابين الضخمة الذي يتخذ من أحد زوايا القبر مضجعاً له وتم الصداقة بينهما حيث كان يوفر له بعض الطعام ولا يؤذيه وأصبح مألوفاً له أحياناً كثيرة كانا يتشاركان في النوم على نفس الفراش .
في ذاك اليوم لم يخرج الياس من مرقده كعادته، ومرت عدة أيام ولم يشاهده أيّ من الباعة الذين تعودوا على الالتقاء به كل صباح وفي أوقات مختلفة من اليوم ؛ مضى أسبوعان وثلاثة أسابيع واقترب غيابه من الشهر وكان باب القبر مغلقاً وكان الجميع يظنون بأنه لذات الأسباب التي كان يبرر غياباته السابقة بأنه مريض وكان يعالج في المستشفى في حين لا أحد يعلم عن حقيقة أمر غياباته وأن يقضيها.
أدى غياب ألياس التسبب في قلق من عرفوه فاضطروا لا بلاغ الشرطة عن غيابه ، حضر فريق من الشرطة بمساعدة البعض ممن أخبروا الشرطة عن مكان القبر الذي يرقد فيه إلياس فذهبوا إلى القبر فوجدوا الباب مغلقاً ، حاولوا فتح الباب لكنه كان مغلقاً من الداخل فقام أ بكسر الباب ودخلوا القبر حيث كان الياس ممدداً على فراشه فظنوا بأنه نائم ولكنهم فوجئوا بتمدد الثعبان على صدره وكأنه حزين لأمر ما .
تقدم ضابط الشرطة يتفحص نبض إلياس فوجده متوقفاً وقد فارق الحياة ؛ اعتقد الجميع بأنه قد تعرض إلى لدغة من الثعبان تسببت في قتله ، ولكن الجميع أكدوا بأن الثعبان هو الصديق الوحيد للياس وانه من المستحيل أن يكن هو السبب في قتله، تم نقل ألياس إلى المستشفى حيث أكد الطبيب الشرعي بأن سبب الوفاة هو توقف عضلة القلب عن العمل.
مات إلياس ومات سره معه..
د. عز الدين حسين أبو صفية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق