قصة قصيرة
المحطة الأخيرة
وضع حقيبته الجلدية القديمة بجانبه. أسند رأسه على كتف الكرسي. المحطة مازالت شبه فارغة. أغمض عينيه، لبرهة... تسللتْ إليه جلبة مبهمة. مدّ بصره المتغبّش، بدهشة "يبدو أن القرية على قدم وساق...". تعالت الثرثرة حوله. الوجوه على كثرتها، منشغلة عنه.
على بُعد كومة من الألواح المهملة، لاحت المقبرة تفترش بياضها؛ خاوية، إلا من طفل صغير غير مكترث بما حوله. شعر بقوّة غريبة تدفعه إليه. حاول أن يُسرع في اتجاهه. جثمتْ على أنفاسه نوبة السعال المزمن، ككل الهموم في صدره."يا للمركزية المجحفة! أ كان يجب أن تبتلعني المدن وتقتاتني الرطوبة... لعينة لقمة العيش... لعينة". هكذا كان يُحدّث نفسه، إلى أن وصل إليه. تحسس الشّامة تحت رقبة قميصه، وهو يرمق رقبة الطفل العارية. الطفل نسخة غابرة عنه! وعلى الشاهدة اسم الوالدة!
'دمعات' شفيفة، تحررت بعفوية. رمرم بعطف، يُهدهد روحه المشتاقة "أمي". سنوات طويلة من الهجر، لم يستطع العودة حتى لدفنها. كان يخجل من صمتها المعاتب. كان يستصغر نفسه في حضرتها. لم يحقق ما كان ينشده بعد مشواره الدراسي الشاق. حتى حبيبته الوحيدة، لم تستطع الصبر عليه وتركته. كان يعتقد أن كل عثراته مؤقتة، لكنّه وجد نفسه في النهاية فريسة المؤقت المستمر. فريسة البطالة، فريسة لقمة العيش، فريسة 'أصحاب الكيف' في النوادي والفنادق التي كان يعمل بها. نظر إلى أصابعه المرتعشة... تذكر أول مرة لامس فيها مفاتيح 'البيانو'؛ كانت هواية في البداية، لا تخلو من شغف، لكن سرعان ما تحوّلت إلى رغيف خبز. رغيف مرّ، استهلك شبابه وصحته، أبعده عن أهله، عن أمه، عن أرضه... لم يشعر بخرزات عمره تنفرط على رصيف الغفلة، في رحلة اللهث... دون هوادة، دون مساحة للتفكير، للعودة، للفرح... قُبرت كل الأشياء الجميلة بداخله، تنهّد بعمق، يلوكه الندم... وضع يده على وجه الشاهدة. "آه يا أمي... سامحيني يا غالية". ثم أطبق جفنيه، مرة أخرى.
في المحطة، زمرة من المسافرين حوله. كان خمار الشمس يداعب وجهه...
لا أعرف كيف تسللتُ بينهم! لا أحد يراني غيره! كان... يبتسم لي...
نوره محمود
12/12/2023
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق