الأحد، 10 مارس 2024

لابد من إصلاح الخطأ للأديب كمال العرفاوي

 *لا بدّ من إصلاح الخطأ*                       

        عند الظّهيرة دخل مراد مطعما فاخرا وهو يسند أمّه 

الّتي أنهكها المرض العضال إنهاكا، وجعلها لا تستطيع المشي إلّا بمساعدة الغير، فقد كانت كلّ أطرافها ترتعش باستمرار، لذلك كلّف مراد خادمة للقيام بشؤونها، وحين يعود من العمل يتولّى بنفسه رعاية أمّه الّتي ترمّلت منذ كانت في ريعان شبابها لمّا فقدت زوجها في حادث مرور مُريع، قرّرت بعده الخروج للعمل لتتمكّن من رعاية، وتربية ابنها الوحيد مراد حتّى صار الآن مهندسا شابّا خلوقا، ناجحا في حياته...

       أجلس مراد أمّه بلطف على الكرسيّ، وجلس قبالتها يتبادل معها أطراف الحديث. وما هي إلّا دقائق حتّى جاء النّادل، فطلب مراد لنفسه ولأمّه أكلتها المفضّلة ،كسكسا بلحم الخروف. بعد فترة زمنية قصيرة أحضر النّادل الطّعام، فشرعت الأمّ وابنها في الأكل. كانت الأمّ تحمل الكسكس بملعقة تمسكها بيدها المرتعشة، وكانت تأكل بشراهة والطّعام يتناثر على ثيابها وعلى الطّاولة والأرض. كان ابنها يتابع حركاتها دون قلق أو انزعاج، ومن حين إلى آخر كان يملأ ملعقته كسكسا ولحما طريّا، ويطعم أمّه والإبتسامة لا تفارق محيّاه، وهو في قمّة السّعادة والانشراح. كان بين الفينة والأخرى يشرد بعض اللّحظات لتعود به الذّاكرة إلى أيّام صباه حين كانت أمّه تطعمه الطّعام، ثمّ تمسح له شفتيه بمنديل مُبلّل، وتحضنه بحُنوّ لا مثيل له، فيشعر بالدّفء والأمان والاطمئنان...

         جلب منظر الأمّ، وهي تأكل الطّعام، وتلوّث ما حولها 

انتباه الحاضرين في المطعم، فأثار اشمئزازهم خاصّة عندما رأوا آثار الطّعام على محيط فمها وعلى ثيابها... في تلك اللّحظات كان صاحب المطعم يقوم بجولته التّفقّدية المعتادة في مطعمه، فلاحظ الأعناق المشرئبّة نحو المرأة وابنها، وعاين انتشار الهمز واللّمز بين الزّبائن، وأدرك في الحال السّبب حين أجال بصره في وجه المرأة والطّاولة وأرضية المطعم. تقدّم نحو مراد وأمّه، وقد استشاط غضبا، وأراد أن يؤنّبهما لولا أن رأى الشّاب يمسك بيد أمّه ويسندها إليه، ويتقدّم بها نحو المَغسل، فعدل عن ذلك..

          قام مراد بغسل وجه أمّه ويديها وثيابها، وأخذها بلطف وحنان وأجلسها على كرسيّ بجانب الجدار. وقد كان الجميع يلاحظ ما يدور باستغراب. ثمّ عاد إلى المَغسل وجلب معه مكنسة وسطلا به خرقة وماء ومطهّر ، وشرع في تنظيف الطّاولة والقاعة والجميع منبهر بما يقوم به، وقد تحوّل اشمئزازهم وتقزّزهم إعجابا. زاد اندهاش صاحب المطعم من المشهد حين شرع الجميع في التّصفيق، وانطلقت من أفواههم عبارات المديح والثّناء على مراد...

       اغرورقت عينا صاحب المطعم دموعا، واتّجه نحو الشّابّ شاكرا صنيعه، ونحو أمّه مقبّلا جبينها، ماسحا على رأسها بكفّ يُمناه، وقد أعلن أمام الجميع بأنّه سيستضيف هذا الشّابّ وأمّه بمطعمه مدّة شهر كامل ليتناولا الطّعام معه على حسابه الخاصّ. وقد أضاف قائلا متوجّها بالخطاب إلى مراد، والدّموع تنهمر من عينيه بغزارة:

- لقد علّمتَني معنى العطف والحنان، وكيفية البرّ بالوالدين،  وردّ الجميل لهما كي يعيشا في أمان. لقد رفعتَ عن عينيّ غشاوة لازمتني سنوات وسنوات، وأعدتَ إليّ رشدي، ووضّحت لي سبب تعاستي وشقائي رغم ثرائي... ثمّ هرع نحو سيّارته وهو يحدّث نفسه:" كم أنا غبيّ، عاصٍ، أعمى البصيرة! كم أنا قاسٍ، عديم الإحساس! ثمّ أضاف:" لا بدّ من إصلاح الخطأ قبل فوات الأوان، لا بدّ من جبر الضّرر الآن." وما هي إلّا لحظات حتّى أنطلق بسيّارته يطوي الأرض طيّا نحو دار المُسِنّين..."

كمال العرفاوي في 9 / 03 / 2024

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق