حكايات من تحت تراب غزة
لا أسمع الانتحاب ولا أصوات البكاء ولا أرى الدموع ولا أرى الوجوه التي اقتلعت في لحظة عابرة من الحياة ، ولكن هناك أصواتاً ونشيجاً وصراخاً مكتوماً يريد اغتصاب الصمت البارد والزنخ الذي يرتكب خطيئة العمى السياسي المرسوم بدقة مهندس ركض في سهول الابتزاز وصعد جبال المصالح وهناك قام ببناء خيمة لضيافة الرضى الأمريكي .
قد لا يسمع البعض الأصوات القادمة من تحت الأرض التي تحولت إلى عناوين تقتحم التساؤلات، إلى هذا الدرك وصلت الإنسانية في وحشيتها واستسلمت إلى قانون الغاب وختمت الذاكرة التاريخية بالشمع الأحمر؟ مع العلم إن الذاكرة قد تفتح في المستقبل ويتحول زعماء ورؤساء وقادة الدول اليوم إلى متهمين وبلطجية المناصب ويحملون جوزات سفر إلى صفحات التاريخ السوداء ..!!
كشفت " غزة" عن عالم الميكروفونات الذي يحمل الأكاذيب ومرايا الخداع والتلون الصوتي والعبث الكلامي ، وكشفت عن نفايات صالات المطارات والسجاجيد الحمراء التي ترسم الوجوه البلاستيكية الضاحكة، والتي تبشرنا أن " الأبقار الضاحكة " تعيش في حظيرة الكلمات والشعارات الباهتة وقراءة كتب التذبذب والهذيان وحل الكلمات المتقاطعة وتكوين عبارات الانحناء والخضوع. وهناك من يتحدى ويخترق الحظيرة ليشير إلى آكلي لحوم البشر ويتلو على المسامع أرقام القتلى وكيف تتغير أقنعة الموت كل لحظة.
في الحروب صوراً كثيرة تغرس في قلبي وعقلي عشرات السكاكين، ولكن هناك صوراً تغرز السكين في قلبي وتصرخ بأعلى صوتها وهي تحاصرني كالأشباح الغامضة ، مثل صور الجثث العالقة بالرمال، في جوف الرمال التي احتضنت الجثث لأن هناك من حاول اخفائها ، نرى الجثث متشبثة بالرمال وأسنان الجرافة تعبث ببقايا الاشلاء ، الصورة الموجعة حين يحمل أحد اسنان الجرافة يداً أو رأساً أو صدراً ،أو بقايا البقايا التي تحمل معها قطعاً من ثوب يشير إلى صاحبه ، لنقف وتتساءل ماذا كان يحلم هذا الرجل ؟ أو هذه المرأة ؟ هل ذاب قلبه داخل الرمال الساخنة التي كانت أرحم عليه من أيدي القهر والظلم .
أرسل لي أحد الأصدقاء صورة قد تكون ساخرة إلى حد الألم والبشاعة وجنون العصر وعنجهية السلاح ، صورة لقبور في " غزة" تحمل عبارات تصف الجثة التي دُفنت دون أن يعرف اسمها ، لقد كتبوا على كرتونة أو حجر أو لوحة تفاصيل الجثة مثل " ناصح ، طويل يرتدي ترننغ برتقالي " ، يختصرون حياته وأحلامه وطموحة في هذه العبارات التي تشهق وجعاً وغربة ومثله المئات .
مثلما كانت " الخيمة " و " اللجوء" و " السجن" و " الأسر " والغربة " و " الحنين " وغيرها من الكلمات التي رصدت القهر والوجع الفلسطيني وأصبحت جزءاً من أدبيات الكاتب الفلسطيني ، هل سيكون عندنا " أدب القبور المجهولة " وحكايات الجثث غير المعروفة ؟
حتى القبور الجماعية في غزة تتنهد وتتجرع الإهمال وتسترق السمع لهذيان من فوق الأرض، و لطالما ضحكت وحلمت وشربت الحب، لكن الآن المجهول يحاصرها .
بعد الحرب ستكون الحكايات كثيرة والقصص المروعة والمخيفة كثيرة ، وستكون حكايات الجثث غير المعروفة ميداناً للتأمل ومرافقة الحكايات إلى بوابات الأجيال ليس للتسول بل للتوسل لمعرفة ماذا جرى بالذين تركوهم خلفهم .
شوقية عروق منصور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق