الأربعاء، 7 أغسطس 2024

الطفولة والحصان في غزة للكاتبة شوقية عروق منصور

.الطفولة و  الحصان  في غزة 

دائماً أثناء الحروب تخرج الكثير من الصور والتي غالباً تكون صوراً تؤكد على اغتيال الإنسانية  محاطة  بالقتل و الخوف والدموع والصراخ والأنين والجوع  والعطش والتفتيش عن مكان آمن، و غالباً أماكن الحروب تحدد هذه الصور مع - بقاء المشاعر الإنسانية فهي واحدة - لكن المستوى الاقتصادي لسكان المكان الذي تقع فيه الحرب و أسلوب حياتهم  هو المتغير  بين  الصور . 

والعدوان على غزة ، أو الحرب على غزة كشفت عن صور كانت تمشي على رؤوس اصابعها وتهمس لنا نحن هنا رغم كل شيء ، من صور الطناجر الضخمة التي كانوا يعدون فيها الطبخات لكي توزع على الواقفين في طابور الحاجة المغطاة بذل المرحلة ، حيث كانت الطناجر فوق المواقد تغلي بهدوء أمام نفوس تغلي من الجوع  القهر   ، لم يتوفر الغاز أو الكاز فكان الحل بقايا  الأخشاب  والأوراق والكرتون  وكل شيء صالح للاشتعال ، وكذلك المياه الشحيحة في هذا الجو الحار ، وقد رأينا أطفالاً يحملون " غالونات ملونة " يقفون في الطوابير ، والأصعب هؤلاء الأطفال الذين في سن الثالثة والرابعة يحملون " غالونات " يقومون بجرها  على الأرض ، حيث لا يستطيعون حملها ، المهم  مساعدة عائلاتهم  فقد اصبح كل واحد فيها مسؤولاً عن نفسه وعن الذين حوله لدرجة الشعور أنه لا يوجد طفولة وأطفال في غزة ، لقد كبروا قبل الأوان ، وأصبحت نظراتهم - إذا استطعنا قراءة لغة الجسد - تمسك بأشواك الحياة وتقوم بتكسيرها - رغم الألم -  لكي تجمع تلك الأشواك ذات يوم و تحولها إلى سهام تنثرها في الهواء ، وقد تصيب تلك السهام بعض الصدور التي راهنت على اعدام الطفولة. 

  من الصور التي اقتحمت المشهد غير الواقعي ، كأن المخرج أراد أن يجعل من براءة هؤلاء الأطفال جسراً للضحك والسخرية ، لكن هؤلاء الأطفال الصغار الذين تحولوا إلى تجار ، يؤكدون للمخرج أنهم يقفون تحت الشمس الحارقة لبيع الترمس أو البسكوت وغيرها من الأطعمة الخفيفة التي تعدها الأمهات في البيوت لتكون  مصدراً للرزق  - وحصاة  تعين حجر - ، لكن هؤلاء الصغار أصبحوا يعرفون ان الحياة أيضاً تجارة و الآن   دفاتر الديون  مفتوحة - ديون المواقف -   وكل شيء مسجل في دفتر ديون المستقبل . 

أما صورة الصبي   أبن السابعة  من العمر  الذي وجد نفسه مسؤولاً عن أخوته  الأربعة وشقيقته التي تبلغ من العمر أربعة أشهر بعد مقتل والديه أثناء القصف ، حيث يقوم بإطعامها وغسيلها وتغيير ثيابها ، وعندما سأله المذيع ماذا يريد ؟ لم يقل أنه يريد لعبة له أو طعاماً  ؟ قال أنه يريد حفاظات " بامبرز" لشقيقته الطفلة ، لأنه تعب من غسل بقايا " الشرايط" .  

وتأملوا  صور الأطفال الذين يتجولون بين الخيام،   حفاة في ملابس رثة ، بعد أن خسروا بيوتهم وقد يكونوا قد خسروا آبائهم   وأمهاتهم ، والآن يلعبون فوق الرمال أو بين البيوت المدمرة التي فقدت عناوينها وذكرياتها ووجوهها ، لا ملاعب لا مدارس لا ساحات  ، والخيام ممتلئة بالحرارة والضيق والاستعداد للهرب والنزوح من مكان إلى مكان. تأملوا عيون هؤلاء الأطفال الذي يغطس في نظراتهم مشاعر وأحاسيس تركض لاكتشاف الغد بعيداً عن اليوم الذي صادق الرصاص والموت في كل لحظة . 

من يفتش عن الطفولة في غزة سيصاب بالسكتة القلبية والعاطفية والإنسانية ،  في زمن تتغنى الحضارات بحقوق وتوفير الحياة للأطفال ، هناك في هذه المساحة الجغرافية النازفة بالدماء والدمار ، تضحك الحقوق وتتمرغ في الرمال الساخنة من شدة الكذب والخداع ، فهناك طفولتهم وهناك طفولة غزة ، وبينهما خداع الحقوق وثرثرة علماء النفس وعلماء الاجتماع  ورؤساء الجمعيات وأوساخ الساسة والسياسيين . 


الحصان الذي يساوي الأمة العربية 

في ظل التنقل والنزوح من مكان إلى آخر  في قطاع غزة ، والهرب والخوف  من القصف  والموت السريع الذي أصبح كرمش العين ، وفي ظل الشوارع التي لم تعد تصلح للمشي أو للسيارات بعد أن دمر معظمها  ، كان للحمير والأحصنة الاحترام والتقدير والحظ السعيد  ، ها هي " الكارات "  أو العربات التي تجرها الأحصنة أو الحمير  التي تحمل الناس،  حيث تنقلهم مع أولادهم وبقايا  امتعتهم  حتى أصبحت هذه الأحصنة والحمير العنوان الرئيسي ، حتى أن هناك من وضع لركوب العربات القوانين الخاصة بكل  " كارة "   من حيث الوزن وطريقة الجلوس من كل طرف . 

من كان يملك أفخم وأغلى السيارات الآن يتمنى لو كان يملك حماراً أو حصاناً ، فقد بقيت الحمير والأحصنة على وفاءها للبشر ، هم وحدهم من تنازل عنها وتركها عرضة للضحك والاستخفاف - إذا استثنينا خيول السباق - . 

 صرخ أحد ركاب " الكارة "  أمام الشاشة  الفضائية  " :

- والله هذا الحصان العجوز أفادنا أكثر من الأمة العربية" ..!!! 

شوقية عروق منصور

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق