الأربعاء، 28 أغسطس 2024

خاطرة / ذكريات على عتبة الذاكرة للدكتور مفلح شحادة شحادة

 خاطرة بعنوان 

 ذكريات على عتبة النافذة


تقف هناك، بصمت يحكي قصص العمر، امرأة لها من السنين ما يكفي لتكتب ملحمة. على نافذتها المشرعة لأسرار الزمان، تضع يديها فوق بعض، تسندهما بروية وتتأمل سماء تتقاطع مع خط الأفق حيث تتلاشى ألوان اليوم بأمواج الغسق. تلك اليدين التي حملت، بنت، احتضنت وودعت، الآن تحتضن بعضها بحنان ورجاء.


تشرد ببصرها إلى الأفق البعيد، وهو يحتضن النجوم الأولى التي بدأت ترمق العالم. محيط عينيها يؤوي سلاسل من الذكريات المتلألئة كالنجوم، تتوالى على شريط الحياة مثل لؤلؤ مضيء في خيط الليالي الطويلة. في صمتها، حكايات لا تنضب، وفي شرودها، أسئلة تبحث عن إجابات في ثنايا ذاكرتها المعبقة بعبق الأمس.


ربما تفكر في أول قبلة طُبعت على جبينها ببراءة الطفولة، أو الهمسة الأولى للحب الذي تسلل إلى قلبها كموجة دافئة في ليلة شتائية باردة. تتذكر يوماً أضاءت فيه الشموع لأول مرة في وجود من أحبت، أو تلك المرة التي رقصت فيها تحت زخات المطر، فرحة، حرة كطائر انطلق لتوه من قفصه.


أم قد تتأمل في حكاية الأيام؛ حين كان قلبها ينبض بالأمومة، وهي ترفع أطفالها فوق أكتاف الحياة، تعلمهم كيفية النظر إلى العالم بعيون ملؤها الأمل والشغف. في تلك النافذة، شهدت أفراحاً وأتراحاً، واليوم تقف بكل ما أوتيت من قوة، تستذكر الوعود والأحلام التي زرعتها في أرواحها وأرواح من حولها. 


ربما هي تفكر الآن في شغفها القديم الذي مازال يتقد فيها، أو في طموح مكمون لم يُكتب له أن يرى النور. تتأمل ربما كيف أن التجاعيد رسمت خرائط جديدة على جبينها، خرائط مملكتها الخاصة، حيث كل شعرة بيضاء لها حكاية مذهلة ترويها في السكون.


ومع كل هذه الذكريات، ها هي الآن، كبيرة بالعمر، تحمل في نظراتها حنيناً لزمن مر وتوقاً للحظات لم تأت بعد. وفي قلبها، مساحات شاسعة من الحب ما زالت تزدهر كحديقة خالدة، تعطي ولا تبخل، تحب ولا تنتظر. تلك النافذة ليست مجرد مراقب للزمن يمر، بل هي شاهد على أن الروح لا تعرف الهوان مع تقادم الأعوام، وأن الأحلام تظل تاتي وتروح... كنجوم تشرق مع كل غروب وتغيب مع كل شروق.


دكتور مفلح شحادة شحادة كاتب وشاعر المانيا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق