الأربعاء، 4 سبتمبر 2024

ق.ق قتلت ابنتي للكاتب عبده داود

 قتلت ابنتي

قصة قصيرة

3/9/2024

هبة وعبد المسيح جيران في حارة واحدة وفي كلية  واحدة.

هبة منحها الله جمالاً خلقياُ وجسديا يحسدها عليه جميع من يعرفها... جمالها الطبيعي لم يحيجها أن تستخدم أدوات التجميل المختلفة، كانت طبيعية بكل شيىء حتى شعرها السابل كانت تقصه قصيرا ولا تذهب إلى مصففي الشعر إلا نادراً...هبة هي ابنة عائلة ثرية، مع ذلك ثيابها التي تختارها هي غاية في البساطة، لكنها ايضاً غاية في الاناقة،

هبة هاوية رسم وتعشق المدرسة الكلاسيكية في اللوحات ولا تعنيها مدارس الرسم الحديث كثيراً...

عبد المسيح كان هاو  للفن الحديث، كان يقول لصديقته هبة بان المدرسة الكلاسيكية قد رحلت بوجود الكاميرات الحديثة... التي تصور أدق التفاصيل،  وتعطي للناظر لوحة تبهره كإنسان متلقي... بينما الفن التشكيلي الراقي هو الفن الذي يحرك الفكر لا الحواس... يحرك الروح لا الجسد...يحرك البصيرة لا البصر...

كانت دائما يتجادﻻن حول هذين المدرستين.

هما طالبان في كلية الفنون الجميلة، يذهبان يومياً في الصباح إلى الجامعة ويعودان سوية إلى حارتهما.

منزل أهل هبة عبارة عن دارة  شاسعة برحة،  وهي وأحدة من بيوت دمشق القديمة العريقة، بينما منزل أهل عبد المسيح قديم صغير ، والفقر يسكن فيه.

أبو هبة يحب ابنته ولا يرفض لها طلباً، خصص لها غرفة في المنزل تشرف على حديقة الدار، جعلها مرسماً لابنته  مليئاَ بادوات الرسم وجميع أنواع الألون وكل ما يلزم حتى تستمتع بممارسة هوايتها ودراستها الجامعية.

عبد المسيح طالب فقير، يعيش في بيت اهله مع عائلة كبيرة ومن المستحيل أن يتوفر له أجواء تساعده على ممارسة هواياته ضمن بيت أهله فكان يخرج  عندما يكون الطقس مناسباً إلى غوطة دمشق القريبة من حارتهم ،  لينجز لوحة ما وغالبا ما تنال لوحته  اعجاب رفاقه ما عدا هبة لا يعجبها غير الرسم الكلاسيكي...

هبة كانت تدعو عبد المسيح الى مرسهما باستمرار وكانت تقول له تأكد بان أهلي لا يمانعوا من زيارتك، نحن جيران وأهل...لكن للحقيقة كانت دعوتها ابعد له من ذلك، هبة كانت تكمن مشاعراً مختلفة ساخنة إلى جارهم عبد المسيح منذ كانا صغاراً يلعبان في حارتهما بالكرة...هذه المشاعر الطفولية البريئة كانت تنضج مع الأيام لكنها كانت هامدة بحاجة إلى صرخة تحركها... صحيح عبد المسيح لم يبح لها بكلمة حب أو غزل، لكن كل ما كان فيه يقول: بانه يحب هبة بكل كيانه، بكل قلبه وعقله، كان يعاملها معاملة مختلفة عن سائر الناس، كان يدافع عنها عندما كانا طفلين، وإلى اليوم ، وهما في الجامعة كان عبد المسيح هو السيف المسلول خلف جارته،  نحن كنا نظن بان علاقة عبد المسيح مع هبة علاقة لا تنجح، والسبب هو الفارق الطبقي الشاسع بين العائلتين

أبو عبد المسيح يعمل حارساً في أحد الأبنية، وأبو هبة معاون وزير معروف...

في سنة التخرج، كان على كل طالب أن يقدم عملاً فنياً يختاره...

اختار عبد المسيح وهبة ذات المكان كنيسة حنانيا في باب شرقي ليرسماه كل بريشته وحسب طريقته...

عبد المسيح رسم الكنيسة بالوان فرحة وكان يقول بان المسيحية نور ويحب أن تكون الكنيسة نور ايضاً، لم يعطي للتفاصيل أهمية بالرسم ولكن أكد على ظهور شخصية يسوع وحضوره في القربان المقدس...

هبة رسمت الكنيسة بأسلوب تعمدت فيه ، الدمج بين الفن الكلاسيكي والفن الحديث، حافظت على المدرسة الكلاسيكية باسلوب تشكيلي كالذي يحبه عبد المسيح

عندما انتهت هبة من لوحتها، سألت عبد المسيح ما رأيك؟ عبد المسيح عندما رأى اللوحة أذهل، وقال بصوت مرتفع  رائعة، رائعة... وغاية في الجمال والروعة مثلك يا أروع البنات، يا حبيبتي قلبي هبة...

نظرت هبة الى عبد المسيح باستغراب، وهو لا يزال مبهوراً باللوحة، والملاحظ بانه قد قال ما قاله، دون تعمد منه، لقد انطلقت الكلمات منه عفوية، بدون قصد أو وعي.

صمتت هبه وهي تنظر اليه مذهولة، هي التي انتظرت منه كلمة حلوة عبر سنوات طويلة مرت لكنه لم ينطق بحرف مما قاله الآن...

انتبه عبد المسيح لذهول هبة، وادرك ما حدث وأصيب بالجمود والحرج مما نطق به، وأحمر وجهه خجلاً، وحاول أن يتكلم  ربما أحست هبة بأنها كلمات اعتذار...لكن هبه سبقته ووضعت اصابعها على فمه واسكتته، وقالت: وأخيراً يا عبد المسيح نطقت، وأخيراً...لقد تأخرت عشرين عاماً لتقول هذه الحروف التي هربت هروباً من فيك...وأنا انتظرها ليل نهار... حروفاً تعيش في قلبي كل تلك السنين، كنت أتضرع الى الله ليل نهار أن يجمعنا سوية، ولكنني كنت خائفة، محرجة، أن تبتعد عني لو صارحتك بما يملأ قلبي من حب يعيش  معي وفي قلبي منذ كنا نلعب في الحارة كرة القدم. 

بعد تلك المكاشفة، انقلبت الموازين، انكشف غطاء الحب الذي كان يستر جمرات النار المتأججة تحت رماد يخفي وهجها وحرارتها...

منذ ذلك اليوم، انفجر ينبوع الحب، بل تهدم السد العالي وانهارت المياه المحبوسة لتجرف كل العوائق والحواجز وكل ما يقف امامها أو يحاول أن يصدها...

ولكن غالباً ما تجري الرياح بما لا تشتهي السفن...وكانت المصيبة بالمرصاد تننظر فرحة العشاق لتحرقها...

والذي لم يكن في الحسبان، هو ابن خالة هبة، جاء ليقف بوجه التيار، وامام ذلك الحب  الكبير المتمرد، جاء المذكور يرافقه جاهة كبيرة من أصحاب الكراسي الكبيرة يطلبون يد العروس ابنة خالته الجميلة  المتخرجة من كلية الفنون بتفوق.

العريس ابن خالتها كان متصوراً بان هبة ستطير من الفرحة ومن المستحيل أن تمانع خطوبة شاب مثله، يكفيه اسم عائلته وثراء ابوه الفاحش (بالمناسبة ابوه اقصد زوج خالتها كان مديراً عاماً في احدى الشركات، وقد سرق ملايين الدولارات من وراء صفقات تسجل قيمة مشترياتها بعشرات اضعاف سعرها المدفوع) 

الآن ابن خالتها رجل مجتمع، كونه ابن المديرالعام، وكما يقال:(يا أرض اشتدي ما حدا قدي) جاء بكل ثقة يطلب يد هبة ابنة خالته لتكون شريكة حياته...

تكلم أبو العريس المدير العام، وتكلم ابن المدير العام وطلبا يد العروس هبة...

زعردت الأم بفرح هستيري، وزعردت اختها ام العريس بشكل ملفت للنظر، وصاح الجميع مبروك، مبروك

هبة جالسة صامتة على الكرسي تشاهد التمثيلية الهزيلة 

التي تدور امامها...

قال العريس للعروس مبروك يا عروس، قالت العروس ومن هي العروس يا سيدي التي تباركون لها؟ اذا كنت تعنيني أنا، من الذي قال لك انني موافقة أن أكون عروستك يا ابن خالتي العزيز؟ أنا مرتبطة منذ عشرين عاماً، أنا مخطوبة لرجل احبه ويحبني... أنا مخطوبة لحبيبي عبد المسيح منذ الطفولة

ساد صمت اموات، انهارت الأم وسقطت مغمى عليها، 

قال الأب بعد صمت أتتركين ابن الناس لترتبطي بابن حارس بناية؟

قالت هبة حارس البناية هذا،  يأكل الخبز الحلال من تعب جبينه، لا يسرق، وهو يعرف الله بحق، وقراري هذا لا رجوع فيه، ولا جدل حوله...واعتذر منكم أنا متعبة وذاهبة لأرتاح...

هبة لم تخبر عبد المسيح بما جرى او على الأقل كانت تننظر فرصة لتسرد عليه قصة المسرحية بغياب الممثل الرئيسي فيها... العروس

بعد أقل من أسبوع طرق باب عبد المسيح مراسل راكباً دراجة نارية، طلب هوية عبدو  وأخذ توقيعه وسلمه رسالة مضمونة...

تقول الرسالة تحتاج مؤسستنا إلى مدير قسم الإعلان والتصاميم في القامشلي، وبعد مراجعة أسماء الطلاب الناجحين في الكلية تم اختيارك لتكون أنت مدير القسم المحدث هناك، وذكرت الرسالة راتباً شهرياً مغرياً جداً، صعب على أحد بمثل وضع عبد المسيح أن يرفضه...

على الفور اخبر عبد المسيح هبة على الوظيفة المعروضة عليه...

أخذت هبة الرسالة وصدمها اسم المدير العام، كان زوج خالتها أبو العريس الغفلة...

فهمت هبة التمثيلية الجديدة، وهي ابعاد عبد المسيح من دمشق ووضعه في ابعد منطقة في سورية، في دائرة لم يسبق ان سمعت بان زوج خالتها يهتم بامور الدعاية والتصاميم، أو الفن وإذا حصل الآن المفروض أن تكون الدائرة بدمشق لا في القامشلي...

هذه الفرحة الكبيرة التي شاهدتها هبة على وجه حبيبها الزمها الصمت ولم تنطق بحرف...

قال عبد المسيح، سأذهب الآن وارتب الأمور في القامشلي وبعدما يصبح البيت جاهزاً سأعود لنتزوج وتذهبين معي...واريد منك دزينة أولاد يسرحون ويلعبون في بيتنا...

سافر الحبيب، والشوق إلى هبة هو كل حياته وأخذ يرسل الرسائل إلى بيت  أهل هبة،  لكن أم هبة اوصت ساعي البريد واغرته بالمال ألا يسلم الرسائل الواردة لغيرها اطلاقا...

كانت الأم تستلم الرسائل من عبدلله وتحرقها وطبعا دون علم أحد غير اختها ام العريس...

حينها لم تكن متوفرة الاتصالات الهاتفية بين دمشق والقامشلي، وكان عبد المسيح يفور، وهبة تغلي من عدم التواصل...

بعد ثلاثة شهور، ، قامت الام واختها بكتابة رسالة على الآلة الكاتبة وزورتها بتوقيع عبد المسيح وقالتا في الرسالة

يا هبة لا تنتظريني، انا في الحقيقة لا احبك، وقد تزوجت من فتاة احلامي هنا في القامشلي، أما انت كنت مجرد صديقة جامعية. أنت فهمت مشاعري بالغلط، يا ابنة جيراننا الآكابر...

أتمنى لك التوفيق...

أرسلت الأم واختها ام عريس الغفلة الرسالة إلى القامشلي لأحد الأشخاص، وقالت له اعد ارسالها من القامشلي بمغلف جديد عبر البريد الرسمي المضمون باسم هبة

وهكذا كان... وصلت الرسالة الى هبة... 

ياجماعة ارجوكم أن تعفوني من وصف حالة  انهيار هبة، الذهول والصراخ والجنون والهستيريا التي اصابتها...

عبد المسيح كان يغلي من عدم رد هبة على رسائله، 

قال له مديره بالقامشلي إجازة  طلبها ، وقال الأوامر تقول بان اجازاتك مرفوضة إلى اشعار آخر...

عبد المسيح لم يعد يحتمل، ركب السيارة وتوجه إلى دمشق، وكان يقول الرزق على الله...لا اريد وظيفة لا عمل فيها سوى تمضية الوقت وشرب القهوة وهل هذه الوظيفة  بدون عمل التي تحرمني حريتي، تحرمني حبيبتي... 

عندما وصل إلى أمام بيت هبة سمع الصراخ والبكاء والناس تبكي مرتدية الأسود... دخل عبد المسيح البيت يستطلع الأمر، سمع الأم تصرخ وتقول لقد قتلت ابنتي... ابنتي انتحرت بسببي...أنا أحرقت قلبها...

عندما رأت الأم عبد المسيح، أخذت تصرخ مجدداً أنا قتلت ابنتي...

بقلمي عبده داود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق