الثلاثاء، 17 سبتمبر 2024

لوحة الخريف ( تأملات طفل ) للكاتب د. مفلح شحادة شحادة

 "لوحة الخريف: تأملات طفل"


في متحف الطبيعة العريق، تحت سماء الخريف المعلقة بخيوط الذهب الباهت، يجلس طفل صغير على مقعد من الاسمنت  يلامس بيده اليمنى يده اليسرى في هدوء تام يكاد يكون صلاة. الحزن ملمس عينيه، يكاد يكون إعلاناً صادقاً عن قصة صمت، لا يفضح أسرارها سوى الأوراق الصفراء التي تتساقط كأنها دموع الشجر.


عيناه تتوسلان إلى فهم العالم، تتأمل في عمق الأزقة الواصلة بين القلب والخيال. يلتفت يميناً ويساراً، بينما تحتضن يديه بعضهما بحثاً عن الدفء في موسم النسيان. كأنه ينتظر الأمل أو ربما عودة لعصفور صديق، ذهب مع ريح الصيف وترك خلفه صدي صوته في أذن ذلك الصغير.


يرتدي الخريف حوله ثوبه الترابيّ، يعانق أغصان الأشجار وهو يسرق منها حلة الخضرة، ليبدلها بأزياء مخملية مزركشة بألوان الزعفران والكراميل. الشجر العاري يقف شاهداً على فصول الحياة التي تتغير، يرسل أوراقه كرسائل وداع إلى الأرض، تتناثر حول الطفل كورق البردي القديم.


هناك، في هدوء الحديقة، يبدو الطفل كمن يتأمل لوحات الحياة المتعاقبة. يحمل في تأمله ذلك عمقاً يفوق سنينه، ثقة تكاد تكون ندرة في مواعيد المحطات. يتأمل في الارتحال والفراق واللقاء، والأوراق الصفراء تدور في رقصة الزمن حوله، مكانها الأخير هو حضن الأرض الرحب.


في عزلته الصغيرة، تبدو ملامح الحزن على وجهه بحراً من المشاعر، يحكي عن فقدان أو اشتياق، أو ربما بحثاً عن أجنحة يطير بها عالياً. يُلامس الريح خديه وكأنما يلاعب معنى الوحدة في قلبه الممتلئ بسحر الطفولة وحكاية عمر لم يبدأ بعد.


هنافي كنف الخريف الذي يدور، يجد الطفل نفسه معتكفاً في محراب الزمن، يستوعب دروس الحياة من معلم الفصول. تُعلمه الأوراق كيف يكون الرحيل دون ألم، وكيف تكون الهداية لأرض جديدة قد تمنح النور لبذرة ستنمو غداً، معلنة عن بداية حياة جديدة.


دكتور مفلح شحادة شحادة كاتب وشاعر المانيا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق