رغيف خبز يتحدث عن نفسه في غزة
يقول السيد المسيح " ليس بالخبز وحده يحيا الانسان ، وذلك قول لا مراء فيه ولكن السيد المسيح أكد في ذات القول أن الانسان لا يحيا بدون الخبز وأن الخبز أولاً فهو الذي يمثل الأمن الغذائي .
أذكر عندما كنا في المدرسة الابتدائية طلبت منا المعلمة أن يكون موضوع الانشاء بعنوان " رغيف خبز يتحدث عن نفسه" وأخذنا نسخر ماذا سيقول الرغيف ، لكن المعلمة قالت أنه يتحدث عن نفسه عندما كان حبة قمح وكيف تم زرعه و حصده وكيف أخذه الفلاح إلى المطحنة ، وكيف تحول إلى طحين، والطحين اشترته الأم من الدكان ثم عجنته وقدمته أرغفة للأبناء على مائدة الطعام . رحلة حب بين النار و العجين ، بين معدة الانسان وشهوة ضم الرغيف ، بين تنهد الجوع والحُلم بشبح الرغيف.
سمعناها من أبي وهو يقول " أنا بركض والرغيف يركض " وكان أبي اللاجئ كلما تركنا وراءنا بعد تناول الطعام بعض فتات من الخبز يبدأ بإعطاء دروس اللجوء والجوع، وكيف كانوا ينامون والجوع ينخر معدهم .
و عندما كانت جدتي تخبز أمام الطابون جاء من يصرخ بأعلى صوته معلناً استشهاد " عمي" مما دفعها لرمي نفسها فوق الجمر ، وعاشت ويديها خرائط من التجاعيد تدل على لحظة فقدت فيها أعز ما لديها في الحياة ، وبقيت تلك التجاعيد تحفر في الذاكرة صوراً تتحدى الواقع الذي يحيا على الرفاهية ، وفي المرحلة الثانوية قرأت رواية " الرغيف " للكاتب اللبناني توفيق يوسف عواد الذي تعد من أروع الروايات الإنسانية التي تتحدث عن الجوع في فترة الحرب العالمية الأولى .
وسقطنا في وجع الرغيف الهارب ، حيث في غزة أصبح رغيف الخبز حلماً ، نعم الصورة ليست بحاجة إلى سجل فكاهي ، بل هي صورة تسحب خلفها ألماً وخوفاً وصراخاً وجوعاً وحروفاً تلعن عنجهية الساسة والسياسيين ، تلعن صمت الانسان أمام جوع الانسان .
في عالم التواصل الاجتماعي لم يعد العالم قرية صغيرة كما قالوا ، بل أصبح العالم حارة صغيرة وضيقة جداً ، نطل من نوافذ بيوتنا على بيوت الجيران فنجد أنفسنا داخل غرف نومهم ومطابخهم ونعرف عنهم أكثر مما يعرفون عن أنفسهم .
أقول في عالم التواصل الاجتماعي كانت الصور القادمة من قطاع غزة تقدم لنا الوجه الشرس الوحشي والجنوني للحرب ، تقدم لنا سرعة حمل الجثث ولفها بأقمشة وحرامات ملونة ، لم يعد اللون الأبيض متاحاً هناك ، لأنه أصبح نوعاً من الرفاهية أمام أرقام الذين يقتلون - يستشهدون - ، ورفاهية اللون الأبيض دخلت في الضباب ، لأن كل شيء تحول إلى اللون الأحمر أو الأسود أو الرمادي ، عدا عن اختفاء اللون الأبيض من محلات الاقمشة التي كانت متواجدة.
ويبقى أصعب الألوان عندما يكون الصراخ والأيدي الممدودة في طوابير الجوع ، تلك الطوابير التي تحمل الطناجر والصحون ، وجميع أشكال الأوعية تنتظر من يمد ويسكب لها القليل من الطعام.
أما صورة رغيف الخبز فهي الصورة الواسعة التي تغطي الشاشات وتشهق فزعاً ، تلعن القرارات والجمعيات والمؤسسات والدول وكل مرايا الذل العربي قبل مرايا الأجنبي .
أصبح الحصول على رغيف الخبز نوعاً من الهم اليومي والقلق النهاري والليلي ، عدا عن ارتفاع سعر كيس الطحين بشكل جنوني ، وعدا عن طوابير الخبز التي أصبحت تركع أمام المخابز ساعات طويلة حتى تحصل على بضع أرغفة ، حيث يشعر الانسان أنه أصبح مساحة من الحلم فيها انتهاء معارك وجولات الحصار على تواجد الرغيف .
أحد أساتذة الجامعات في غزة بكى وهو يحرق كتبه لكي تقوم زوجته بخبز العجين ، حيث لم يجد شيئاً يشعل به النيران .. لم يجد إلا مكتبته الضخمة ، لو هذه الصورة التي نشرها وهو يلقي بالكتب داخل النيران لقامت القيامة في الغرب واعتبروه إنساناً قاسياً وغير متحضر.
هل تذكرون المغنية فيروز الصغيرة في فلم " ذهب " مع الفنان أنور وجدي حيث كانت فقيرة ووجدت على الأرض " ريالاً " وأخذت تغني " معانا ريال ... معانا ريال " تذكرت فيروز الصغيرة عندما رأيت الطفلة تنادي والدها بأعلى صوتها يا با " معاي رغيف ... معاي رغيف " .
أحد الأصدقاء عندي على الفيس خطب إحدى الفتيات، وقد كانت هديته لها ربطة خبز ..!! وكم كانت العروس فرحة " بربطة الخبز " إنها ليست نكتة فأنت في الزمن الغزي الصعب ، الزمن الذي يحتفظ بحقه في ادانة التاريخ غداً ، الزمن الذي يتوهم أنه سيموت بعد انتهاء الحرب والعدوان على غزة والتوقيع على أوراق اللعب السياسي .
الزمن سيبقى شاهداً على رغيف خبز كبر وتحول إلى مدن وخيام ومدارس إيواء ، رغيف خبز لم يتكون من طحين وخميرة والقليل من الماء ، بل هو الرغيف الذي تعمد بالانتظار والجوع والدماء .
شوقية عروق منصور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق