. * الحبيبان *
وبعد صمتٍ كان لبرهة من الزمنِ قال شابٌ متأنقٌ وفي عينيِهِ بريقٌ رائقٌ في شرودٍ مُتأمّلٍ يُوحي للناظرِين لعينيهِ الهدوءَ والسَّكينة والٱنجِذاب :
أخبرنا أيُّها المُعلم النُّورانِيِّ شيئًا عن الحَبِيبين.
صمت آدمُ قليلا بفرحٍ مدهشٍ رحّالٍ لكأنَّهُ في شراعِ من زهورٍ ونورٍ يجوبُ مداياتِ الأبعادِ، وبعد أنْ أسهم طرفهُ بعيدا لكأنَّهُ حطّ رِحالهُ بين يدي محبُوبتِهِ ما لبث أنْ شرع قائِلاً :
الحقُّ وبكلِّ ما في الرُّوح من عطشٍ لمعانقة الحُبَّ أقول لك يا أيَّها الإنسَانُ أنْ تردّد عاليًا منشدًا :
ألآ إنَّ حُبِّي لحبيبي أقوىٰ من ٱنحِدارِِ وٱرتِفاعٍ ومن سُّقُوطِ ونُهُوضٍ وكذا من ٱنكِسَارٍ وٱنتِصَارٍ، وأقوىٰ من أنْ تثنيه عن قبلتِهِ أفراح الأفئِدةِ أو شقواتُ الزَّمانِ، لا يشربُ لإرواء عطشهُ إلّا من كأسِ عيْنِ حبِّهَا، ولا يثملُ إلّا من عصِيرِ ثمارِهَا الطَّيبةِ اليَانِعةِ، لأنَّها هي الشَّجرةُ والثمر والظِّلالُ.
ولتعلم إنَّ كلَّ الهوىٰ والإغرَاءِ بعد حبيبي فقاقِيع وأعمدة دُخُان سرعان ما تتلاشى في الهواءِ وأبدا لا تثبت، لأنَّ كلَّ مَن يَقولُ إنَّ الإنسَان ضعيف أمام الإغواء بمعزل عن إرادةِ الذاتِ هو بعد لم يقع على حبيبةٍ يَعشقها بملأ جوارحِهِ فحقا باطلا ما قد قالهُ، وليس لهُ مكِينَ ٱكتِفاءٍ لأنَّ الحبَّ ربيعٌ دائِمٌ أبديٌّ في صُدُورِ المُحبين، أبدا بهجةُ العشقِ ونشوتهُ في أرواحِهِمْ لا تزول، إنَّ إرادة تجلِّيَاتِي تشبُّ من نارِ ونُور حبيبتي وما لي من نشوةِ نسمةٍ لحقيقةِ صَفاءِ أنسٍ إلّا من ٱحتِضَان كُليّ في كُلِّها، فيا لطوبىٰ ٱحتِضَان العاشِقِين.
أقول لك قل يا أيُّها الإنسانُ إنَّ لي حبيبة هي كلُّ إعجابي وٱنبِهَارِي، هي صديقتي وشريكتي وهوىٰ نفسِي وعشيقة فوادي وأنيسة روحِي، هي الأجنحة المُجنحة عميقًا في ٱتساع مناحِي ذاتي، ثمُّ هي كلُّ إغرائِي وتاجُ كلِّ مسرَّاتِي في هذا العالم، فأبدا لن تكتمل سعادتِي ما لم تكن هي معي بكلِّيَّتِهَا على مائِدةِ كلِّ تجلّي ٱغتِبَاطٍ وإبحار.
إنَّ الحبيبين كلًّا منهُما للآخر نِعمةُ السَّعادةِ ورأفةُ المُواساةِ ورِقَّة العطفِ وحُنُوُّ التحنُّنِ وصِلةُ المودَّةِ ومرحمةُ الرَّحمَةِ وبلسمُ الشِّفاءِ وجميلُ الإِحسَانِ، وكذا الطُّمأنِينة والرّضىٰ وعمقُ وِصَالٍ رائِع المحيا وصفاءٌ رائِقٌ لجَمالِ العشرةِ، إِنهُما روحٌ مُتجلِّية فوق عناصِرِ الطَّبِيعةِ لتسكن فيها زاهرَ الحيَاةِ.
ألآ إنَّ ما ينطبع على مرآةِ حبيبتي من مسرّةٍ وحُسنٍ لا بدَّ وينطبعُ على مرآتِي بعيدا عن التزَّحف في الٱستعبَاد، لأنَّ الحبيبين جسدًا واحدٌ بجناحِين فلا يطيران لحدائِقٍ وفضاءَات إلّا معًا ولا يظلّلهُما إلَّا سقفٌ واحدٌ.
الحبيبُ للحبيبِ مرآة فيها كلٌّ منهما ينظرُ نفسَهُ عارية بعناقٍ وَجدٍ مُلتهبٍ لا يَنطفئُ، إنَّهُما معًا بفؤادٍ واحدٍ على دربِ النُّورِ لوَعي أسرار الحيَاة يَسيرَان.
إنَّ الحبيبَ للحبيبِ نُور بَصِيرةِ لُّبٍّ وحديد نظرِ عيْنٍ فلا رؤية متسقة الأبعاد لأحدٍ دون الآخر، والذي لم يحبّ ما زال في عينيهِ بقيَّة من عشاوةٍ وأجنحتهُ لم تبتعد كثيرًا عن الشَّرنقةِ.
إنَّ الحبيبَ للحبيبِ راحة طمأنينة وعضدُ عونٍ وأمان سلام، ولا يوجد بينهما أبدا من هيجانِ خصامٍ لرَوعِ صِرَاعٍ ومعمعةِ ٱضطِرَابٍ لكربِ أحزانٍ، وإلّا ما زالا على بوابةِ الحبِّ لفردوسِهَا لم يدخلا صنو الذي لقربتهِ يغترفُ الماءَ من كُدرةِ الطّين لا من رأسِ عينِ زُلالِ البِلالِ، لا ولم ينضجا بعد من لهيبِ أتونِ صِدقِ العِشقِ للرُّكُوزِ في محرابِ الأنسِ خلصين من شوائِبِ الحيَاةِ وأدرانِ الأبشارِ، لأنَّ الحبيبين كلٌّ منهُما بين يدي الآخر في قدسِيَّة مجيدِ تسابيحِ الحُضُورِ، فدع عنك أيُّها المُحبُّ العاشِقُ الخِصَام للمستنقع الآسن وٱرتقِ على مدرجَّةِ المحبَّةِ لسَامِي الأعالي، فهنالك يمكنك أنْ ترىٰ نفسك وحبيبتك في الضِّيَاء عاريان.
الحبيبان عارِيَان من أسمالِ الظَّاهِرِ سَلامهُما عناقا وسط حقولِ الزُّهُورِ ويمضِيَان يدا بيدٍ على دروبِ أبَّهة بسَاتِين ذات خلّابِ حدائِقٍ ويضطجعان على فراشٍ من بديعِ نُورٍ.
إنَّ الحبيبَ للحبيبِ حقِيقةُ حيَاةٍ وروضَة بَهيجَّة الحُسن، فطوبىٰ للحبيبين في مسرَّة صَفاء العِشرةِ وفي اِجتِناءِ مُلك كلّ المُحاسن.
كذا الحبيبان وإنْ إختلافا في رأيٍ أو عقيدةٍ ما فهُما في حالةِ وِفاقٍ يسيران معًا على ذاتِ الدَّربِ ولا يَزيدهُما الٱختِلافُ إلَّا لمتِين أحكمِ الترابطِ وأجملِ الٱلْتِصَاقِ، ألآ تصير كلُّ أرائِهِمْ عسالِيجًا على ذاتِ ساقِ شَجرَةِ محبَّتِهِم المُثمرةُ تناغُمَ الٱنسِجَام للسَّلام الفياضُ من رُوحِ بَدِيعِ التفاهُمِ، إنَّها كالمياهِ المُتسَاقطةُ على جبلِ واعِيتِهِمْ العالِي لتنحدر لبَحرِ معرِفتِهِم العظِيم.
وأقول يا أيَّها الإنسان لن يبلغ الحبيبان ذروة الحبِّ ما لم يمتزج كلٌّ منهُما في الآخرِ ٱمتزاج الهواءُ في الرِّئةِ والدَّم في القلبِ والأجنحة في فضَاءِ الرُّوحِ، وكذا كلٌّ منهُما منفصل عن الآخرِ وفي ذاتِ اللَّحظةِ مُندمِجَان في إتحادٍ كليٍّ هيهات لهُما بما تشعلا ٱضطرامًا في بعضهِمَا من ٱنفِكاك.
والحبيبان لا ينبض قلبُ الواحد دون الآخر، إنَّهُما العازفُ وآلةُ العزفِ المقدُودة من مادَّةٍ أو المُنبعِثة من رُوحٍ، كما البلبلُ في تغريدِهِ لسماعةِ أذنِيهِ، لا ولا يطير الطّائِر دون جناحيهِ، إنَّهُما في الإنبَاتِ كما بذرةُ الشَّجرةِ الطَّيبَةِ وتوافر شروط النماءِ لكمالاتِ الٱنْبِثاقِ للحيَاةِ في قلبِ الضِّيَاء، كذا الحبيبان كلٌّ منهُما يكمل حبيبهُ وأنّىٰ لأحدهُما مهجَة تضجُّ بحرارةِ الحيَاةِ دون الآخر.
ألآ الحبيبان حين يكتملا في النورِ بعناق المودةِ والإخلاصِ تصير لهُما المحقلة سِحر الجَمال ولا أطوع لطوبىٰ فرادِيس، وتصير لهُما الحياة إنشودة خالصة المحبَّة وحبرة دائِمة الفيضِ، تصير لهُما الحياة عطاء رفدٍ لا ينقطعُ مدَدَهُ وبهاء لا ينفد إشراقهُ أبدًا.
إنَّ من ٱضطِرَامِ عناق الحبيبين في كليَّةِ العشق نارًا وضِياءً ونورًا على الأرضِ وفي الكون، الحرِيُّ كلُّ ما حولهُما يُزهرُ بأزكىٰ الخير.
وهنا صمت آدم قليلا وقد إزدَّاد وجههُ تألق بهاءةِ غبطةٍ، ثم بصوتٍ هادئٍ مموسقٍ أردف قائلا :
قل يا أيُّهَا الإنسانُ إنَّ التي تحبُّ روحِي وتشتهي جسدي هذا شأنهَا فيما إليهِ تروم من وِصَال جمالٍ، لأنَّ الحُبَّ والٱشتِهَاءَ لا يكون من طرفٍ واحدٍ، فبالحريِّ أنْ يَتلاقىٰ الطّرفان بكامِلِ الرَّغبةِ من لوعةِ جسدٍ وهوىٰ نفسٍ وعشقِ فؤادٍ وهيام رُوحٍ، كذا يكون الأمر لٱكتِمال الإشراق وللعروجِ لكليَّةِ الحبِّ والٱنسِجام، قل أنا منعقد طرفِي بطرف حبيبي وبها روحي ممتزجة بتلهب ٱشتِعالٍ، إنَّها حطبُ أتونِي المُتقد بأوارِ ٱضطِرَامٍ وأنا في أتونِهَا النَّارُ، فمن شاءت أنْ تحول حبّها إلى كراهيَّةٍ من حرضِ عزُوفٍ وٱشْتِهَائِهَا إلىٰ عوفِ ٱستنكافٍ من شنآنٍ فحسبها إنَّ ما تفعلهُ على نفسِهَا يرتدُّ إذ العاقلُ قلبهُ بنارٍ لا يُحرق، فبالحقِّ العُدُول بروقةِ الألفةِ كي يكون الجميع إخوةً أصدقاءً في عشِيرَةِ الإنسانِيَّة بالمحبَّةِ البعِيدَةِ عن الأنانِيَّةِ والسَّلبِ والإفسَادِ، ألآ الٱجتِماع بالٱحتِرَام الذي يجيز لكلٍّ أجنحتهُ صوب ما يُريد بحرِيَّةِ الٱتِفاقِ صِلةِ المُشاركة دون اِختِطافٍ وأسرٍ ودون تعصبٍ ونفورٍ وحيازةِ إمسَاكٍ لحرمانٍ ونيل نِعمة نفحةٍ لسُوءِ إحسانٍ.
ألآ إنَّ أفدح الخسَارةِ أنْ يَخسر الحبيبُ حبيبَتهُ، فليعمد كلٌّ من الحبيبينِ ألّا يَخسر معبد قلبِهِ لوجعِ الألمِ ولشقوةٍ من دامِي الأحزانِ، إنَّ دمعةَ المُحبِّ لفقدان حبيبهِ من أندر الدُّمُوع التي تشبُّ في الصَّدرِ لهِيبَ النِّيران، نيرانٌ لا تنطفئ أبدا، لأنَّ الحُبَّ الصَّادقَ هَيْهَات لهُ من ٱنطفاءٍ وهيهات لهُ أنْ يَمُوت.
ألآ إنَّ عبرات فراق الحبيبان تسكبُ في النفس الأسقام، أسقامٌ ما لهَا من بعد من بلسمِ شفاءٍ، فهل يبرأ الحبيبُ من هجرانِ حبيبِهِ إلّا حين طوبىٰ اللِّقاء.
قل يا أيُّها الإنسانُ إنَّ لي من حُبِّي حبيبَة تحبني وأحبها وكلانا يعشق الآخر وفيهِ ذوبًا بتولّهِ العشقِ يَذوبُ، هانئان قانعان مُتسامِيَان مُرتقيان وحُرَّان لا تخالط روحنا غبار الأيام وقيود العبيد ولا تفسد الشَّهواتُ المغريةِ والأهواءُ المخادعةِ نفسَ كلٍّ منا، لا ولا يدخل الشَّكُ المُريبُ قلبينا لعيثِ إفسادٍ وأفئِدتنا لا تقوىٰ عليها الأدواءُ، وكيف لا وقد جعلنا وحدتنا أقوىٰ من حائِلٍ يعترضُ ومشقة تطرأ، فأجْنِحتِي وحبيبتي عاليًا تطيرُ فوق العوالِمِ السُّفليَّةِ لفوق عروشِ الأعالي في الوُجُود ولا ترِّفُ معانقة إلّا الخيرَ والجمَال.
أحبُّ حبيبتي وأنّىٰ لٱنقِطاعٍ وهجرانٍ أنْ يسلب مني حُبَّهَا، لأنَّها متمكنة في ذاتِي أقوىٰ من أيِّ دُنُو نزوةٍ ولحظةِ ٱنشِغافٍ وتلاصق ٱلتِحامٍ، إنَّها في نقطةِ جوهر أنا في قلب دائِرَةِ الضِّيَاءِ وحيث أكون هِي وإيَّاي تكُون.
إِنها نارُ عشقي ونورُ وَجْدِي المتمكن في لبِّ سويداءِ فؤادي.
ألآ يا أيُّها المُحبُّ طوبىٰ لكلّ مَنْ يَعشقون رفقاءَ أنفسِهِم بإخلاصٍ، عشقا كما أعشقُ رفيقتي صبوة غرامِي ولوعة شغفِي ونقاوة وِدَادي ولهيب عشقي ووَله هيامِي، ألآ هنيئا للعشاق المخلصِين تنسم أرائِج الحُبِّ بصَفاءِ اللِّقاءِ المُتقطرِ بشهدِ السَّعادةِ للذةِ ٱكتشاف أسرار كنهِ الذاتِ بحريَّةِ عُبُورِ كلِّ حِجَابٍ.
ألآ رفيقتي محبُوبَة ذاتِي هي لي هناءُ الحياةِ ونعماؤها وأثمن من كلِّ ما فِي الوجودِ من أثامنِ كُنُوزٍ، كذا الحريُّ كلُّ حبيبٍ للحبيبِ بهجَة الجَنةُ بكامِلُ الحضورِ.
وهنا نظر الأفق آدمُ قليلا حيث سكت عن الكلامِ، فإذا الطّيُورُ أسرابًا وأزواجًا تحلقُ في الفضَاءِ الدَّافءِ بواضِحِ ليَاحِ الضِّيَاءاتِ المُترسِلة نحو حضن الأرضِ من خلال سابِحاتِ الغُيُومِ، وفي الأفق قد تبَدَّىٰ جمالُ مرسُوم إبداعات عبقريَّة ريشةِ الرَّسمِ التي تمورُ بيَد الطبيعة لمُتألق فنٍ بديعٍ تقعُ عليهِ مشاهدةُ الأبصارِ في دهشةٍ من فتونٍ، هنيهة ويشرع آدمُ قائِلا : ...
... يتبع ...
من كتاب الإنسان الكامل النوراني لمؤلفه :
المهندس أبو أكبر فتحي الخريشا
( آدم )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق