الاثنين، 12 مايو 2025

غواية المقاعد الخلفية 3 للشاعر محمد الحسيني

 غوايةُ المقاعدِ الخلفيّة 3

"خَفْقُ أَغْصَانٍ تَلْتَقِي"


كانَ الهواءُ دافئًا أكثرَ ممّا يُفترَضْ...

في مساءٍ مزدحم،

كأنَّ المقاعدَ تنقلُ حرارةَ الجلدِ، لا دِفءَ الوقت،

كأنَّ الرغبةَ تُترجَمُ على مِقياسِ حرارةٍ من كوكبِ الشمس.


وأتنفّسُ على مهلٍ... كمنْ يخشى أن يُوقِظَ في صدرِه شيئًا،

كمسوّدةٍ من شهيقِ لمسةٍ،

أو ربّما مَسٍّ بارتدادِ زفير.


هي لا تلتفت...

أو تلتفتُ كمَن ينوي الاعترافَ، ثم يعدِلُ عن الفكرة.

وأجزمُ لحظةً أنَّ ظلّي يُساكِنُ مُقلتَيْها،

أنظرُ نحوَها لأستيقن،

فتُشغِلُ ناظِرَيْها بشيءٍ لا يُرى،

تُعيدُ الكَرّة، وأُحدِّقُ بها،

كأنَّ شيئًا على الزجاجِ يشدُّ انتباهَها،

أُحاوِلُ الإمساكَ بهذا الخَرَزِ الساحر،

فتنزلِقُ بي النّظرةُ إلى لوحةِ إعلان،

أو اسمِ شارعٍ لم أعرفْهُ يومًا.

كأنَّ كلَّ طرفٍ لديها يَختبرُ حضورِي، كما يَختبرُ النورُ ملمسَ الستارة.


قدْ همّتْ بأن تقولَ شيئًا...

ثم إنّها تراجعتْ،

لا أعرفُ مَن؟ ثغرُها أمِ الحرفُ مَن خانَهُ التعبير؟

ووشيٌ تَبعثرتْ ألوانُهُ خُصَلُ شعرٍ هاربةٌ على الوجنتَيْن.


كلّما حاولتِ البدءَ، إرتَجَفَ الهواء،

وسقطتِ الكلماتُ من فمِها كأزرارٍ مفكّكة،

تبتسمُ...

كأنَّها تُعاوِدُ ضمَّ الحرفِ ثانيةً إلى الشفَتَيْن،

تُقبّلُه، وتعتذرُ له.


نطَقَتْ أخيرًا بكلِّ الهَمس:

"ما هذا الذي تقرأُه؟"

كأنّي أعددتُ الإجابةَ بدافقِ حَرف:

"أقرأُ عن إمرأةٍ تَمشي بينَ السطور،

تَتركُ أصابعَها على بياضِ رُوح،

فتتودّدُ حروفٌ... وتنسجم."


أطرقَتْ بإحساسِها، ثمّ هزّتْ رأسَها بابتسامةٍ تأسرُ القلب،

هيَ تعرفُ أنني لم أُكمِلِ الصفحةَ التي في يدي،

بل أتممتُها لوحةَ جمالٍ حَلَّتْ في جواري.


الكتابُ بيننا نَسيَ مهمّتَه،

تحوّلَ إلى ديكورٍ يسرَحُ مسرحَ توتّرِنا،

وأنا أُدَعِّي القراءةَ في سطورٍ

تُرتّبُني لحديثِ قُربٍ لم يكتملْ.


ومن نافذتي،

تسرّبتْ خيوطُ ضوءٍ على وجنتيها،

كأنّها الشمسُ تعتَرِفُ لي بوابلِ عطرِها،

بلونِ أحاسيسِها... وكلِّ مشهدٍ عابر.


صوتُ ارتجاجٍ خفيف،

وتهتزُّ الحافلةُ بأغصانٍ تتصادمُ عن قرب،

كأنَّ الخطأَ كان ينتظرُ لحظةً ليعترِف،

ولا... يعتذر.


لا أعرفُ وقتَها بما كانتْ تَحِس،

حينَ كان قلبي مفتونًا بطَعمِ الارتطام.


هو الخارجُ يركضُ من خلفِ الزجاج،

ولكنَّ الداخلَ... يتباطأ،

كأنّه الوقتُ في تواطؤِ اللحظة،

يتركُها لتَختمرَ فينا،

قبلَ أن تنطقَ أعينُنا بما لا يُقال.


( محمد الحسيني )


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق