الاثنين، 12 مايو 2025

غواية المقاعد الخلفية4 للشاعر محمد الحسيني

 غواية المقاعد الخلفية 4

"وِسادةُ اللّحظةِ الأخيرة"


كان قلبي يقرأُ،

وعينايَ تَذرَعانِ سُطورًا لا تَفهم،

حينَ عبَرَ صوتُ السائقِ صدري: "فلانة!"

اسمٌ لم يَكن غريبًا، ولم يأتِ للصُّدفة.


ابتسمَتْ "لوحةُ المشاعرِ" بخفَّةِ مَن يُخفي السِّرَّ ويُظهِرُه:

"يُشبِهُ اسمي، أليسَ كذلك؟"


هي لم تُجِبِ السائقَ، أو لم يُجِبْهُ أحد،

بل مالَتْ برأسِها على كَتِفي برِقَّةِ غَزالةٍ أَنهكَها العَيشُ داخِلَ نفسِها...

وغفَتْ،

أو رُبّما إغماضةُ هِرَّةٍ بأنفاسٍ مُطمئنَّة،

كأنَّ صوتَ السائقِ لا يمرُّ إلّا عبْرَ قلبِها.

كانت خفيفةً...

قد تَخلَّتْ عن وَزنِها ووَهَبَتْه لِرُوحي.


تلكَ اللّحظةُ، وشريطُ ما مرَّ بي، كان يُصلِّي لشيءٍ بسيط:

لو طلَبَتْ منّي ماءً،

أو أن أَمسَحَ عن وجنتيها حُلمًا، لَكُنتُ فَعَلت،

أو أن تقول: "أخبرني ماذا يَخبّئُ كِتابُك من سُطورٍ حالمةٍ"،

لَكُنتُ قرأتُ لها... حتّى آخرِ العُمر،

كُنتُ لأَمحُوَ المسافةَ، وأَجعَلَ من قلبي ـ المقعدِ ـ مرفأً لها.


عادَ وناداها مجددًا:

"نانسي، قد وَصَلْتِ العنوان... دقيقةٌ وأتوقّف."

كأنّها انتبَهَتْ...

فَتَحَتْ عينيها واعتدلتْ، ويا ليتَها ما فَعَلَت،

أَصلَحَتْ شَعرَها وتَناولتْ حقيبتَها كَمَن يَجمَعُ أوراقَهُ قبلَ الخروجِ من ذاتِ حُلم،

ثم نهضَت.


وقَفَتْ قُبالتي ونظَرَت...

وكمِ استَغرَقتْ بتلكَ النّظرة؟

ثانيةُ عُمرٍ، لا؟

سُويعاتُ حُلم؟

ما عُدتُ أعرِف... ما عُدتُ أَفهم،

وجهُ حَريقٍ دافئٍ أَلهَبَ صدري.


توقّفَتِ الحافلةُ اللّحظةَ،

وأمّا "لوحةُ المشاعرِ" فقد تمايلَتْ في طريقِ النزولِ كأنَّها تُعزفُ الوَقعَ أنغامَ قلبي،

بشيءٍ يُشبِهُ الخروجَ من قصيدةٍ برَنينٍ حزين.


وكَنسمةٍ شاردةٍ على أوتارِ ربيعٍ،

تَطايرَ من أوراقِها منديلٌ أَدخَلَتهُ قلبي،

وكان آخرَ سرٍّ منها قبل أن ترحل.


خطواتُها نحوَ البابِ كانت كأغنيةٍ تَختَتِمُ بآهة،

ونَظرتُها الأخيرةُ شُعاعُ حِضنٍ يَتأجَّج.


حينَ أغلَقَت البابَ خلفَها لم تَلتَفِتْ...

لتأخذَ معها رُوحي وتَترُكَ المقعدَ الخلفيَّ بوشيِ منديلٍ نديّ،

بخُيوطِ وهنٍ مفاجئٍ تَسَلَّلَتِ النبضَ بالوخزِ الخفيف،

كما لو أنَّ الزمنَ توقّف،

كما لو أنَّهُ تعلَّقَ بنَبضةِ قلبٍ أخيرة.


كانَ المقعدُ فارغًا من كلِّ شيء،

وكانتِ الحافلةُ تَسير، لكنَّ قلبي ظلَّ متوقِّفًا.

لم أتوقّعْ أن يكونَ للعابرين هذا الأثر،

ولا أن يُصبِحَ كتِفي وِسادةَ لحظةٍ لا تُنسى.


( محمد الحسيني )


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق