. * أن تَكونَ إِنسَانًا *
أنْ تَكونَ إِنسانًا هو أَنْ تَحيا في فَضَاءِ الحُرِّيَّةِ والجَمَالِ،
أَنْ تُولَدَ من نُورِ السَّماواتِ لا مِن سُلالَةِ القُيودِ،
أَنْ تَمضيَ في دَربِكَ دونَ أَن تُجرجركَ سلاسِلُ الأَوهَامِ،
أَنْ تَخطوَ حافيًا فوقَ الأَرضِ دونَ أَن تُدميَ قَدَمَيْكَ الأَشواكُ،
تَرتَفِعَ فوقَ جِراحِ النَّفْسِ مُنتَصِبَ القامَةِ وجَبهَتُكَ لِلشَّمسِ،
أَن تَنطِقَ بإِيْمانِكَ ولو صارَتِ الأَرضُ كُلُّها بَينَ أوبِئَةٍ وظُلُماتٍ،
أَن يُنبِتكَ الضَّميرُ في الضَّوءِ لِتُعانِقَ في أَعالِيكَ مَجدَ أَنتَ في مُنتهَىٰ الجَمالِ،
لا أَنْ تُنبِتَكَ الأَهواءُ مِن دُونِيَّةِ النَّفْسِ لِسُخامِ العُبودِيَّةِ في غِربيبِ الظَّلامِ،
أَنْ تَنامَ على وِسَادَةِ السَّلامِ دونَ أَن تَستَفيقَ علىٰ أَبواقِ الطُّغاةِ أَن هَيَّا لِقُيودِ الٱسْتِعبَادِ،
أن هَيَّا للنِّيرِ حول المَدَارِ،
أن هَيَّا لخنادقِ الغُبَارِ،
أنْ تكون إِنسَانًا عَليك أَن تَحمِلَ أَجنِحَتَكَ فوقَ العاصِفَةِ نَحوَ الٱنتِصَارِ،
أن تَحمِي ظَهرَكَ من سِيَاطِ الإِذلالِ،
رُوحَكَ من ظِلالِ الزَّيفِ،
أَنْ لا تَنحَني لِلٱنحدارِ،
أَن لا تُقايِضَ مَوقِفكَ بِلُقْمَةٍ فُتاتٍ مِن سَلَّةِ الأَيبَاسِ ومِن مُخلفَاتِ الأوغَاد،
أَو بِلُقمَةٍ مَسمُومَةٍ تَعُومُ في قَصعَةٍ مِنَ لَذِيذِ صَبِيبِ العَسَلِ،
أَنْ لا تُقايِضَ نَبضَكَ بِسَقِيفَةٍ تُظَلِّلُ بِعَناقِيدِها سَقفَ خُصٍّ مِن قَصَبٍ أَو آجُرٍّ،
لا ولا بِقَصرٍ مُنِيفٍ على مُرتَفَعٍ تعرشُ مِنهُ على أودِيَة زُمَرِ القطِيعِ،
أن تكُونًا إنسَانًا هُوَ أَن تَقرَأَ في أَورِدَتِكَ مَفهُومَ دَلالَةِ الحَيَاةِ في آياتِ كِتابِ الإِنسَانِ،
أَن تَرىٰ في العَتمَةِ طَريقَكَ نَحوَ الخَلاصِ لِحَقيقَةِ مَأواكَ،
أَن تَرىٰ في ضَعفِكَ الوُجُودِيِّ سِرَّ قُوَّتِكَ،
في السُّقُوطِ مِعراجًا لِسَامِي مُرتَقَاكَ،
وفِي الشَّوكِ تاجًا فوقَ هَامِ كِفاحِكَ نَحوَ العَدالَةِ وكُلِّ حَقٍّ لِلإنصَافِ،
أيُّها الإِنسانُ لا تَخلَع أَجنِحَتَكَ الحُرَّةِ لِتَلبَسَ قُيودَ الحُشُودِ عَلىٰ أبوابِ الطُّغاةِ المُنحطِّينَ،
يا مَن وُلِدتَ حُرًّا قبلَ أَن تُقَيِّدَكَ أَيْدي أَسيادِ الظَّلامِ،
يا مَن كانَت رُوحُكَ مِرآةً لِلجَمالِ قبلَ أَنْ تُغَبِّرَها قُيودُ الأَبشَارِ،
قُلْ لا لِلْعُبودِيَّةِ في وَجهِ الطُّغيانِ،
ٱعلِنْها اليَومَ لن أَكونَ عبدًا لِأَيٍّ من أَحَدٍ عَدُوّ بِقَيدٍ كان أَو حَبيبًا بِعِناقٍ لأسرٍ،
لِعَاشِقةٍ تُريدُني تِمثالًا في حَدِيقةِ الغرَامِ أَو مِرآةً على مَائِدَةِ العِشْقِ،
لِأَيٍّ مِن مُعتَقَدٍ بِمَرارَةِ عَلقَمٍ أو بِحَلاوَةِ شَهدٍ،
لِمُعتَقَدٍ يَربِطُنِي كَمَا الحَشَرَة فِي قبضَةِ مَقابِضِ العنكَبُوتِ،
لِأَيٍّ مِن فَسِيدِ اَحزَابٍ ودَجَلِ حُكّامٍ،
لِفِرَقٍ تَستَبِقُ بِعَماوَةٍ لِمَنقَعِ الأَوبِئَةِ والسُّخام،
لِكَاهِنٍ فَقِيهٍ يَظُنُّ الأَرضَ مُستنقَعًا لِلخُطاةِ وسَجّادَةً لِبَهيمَةِ الأَتبَاعِ،
قُلها يا أَيُّها الإِنسانُ لن أَكونَ مَملوكًا لِمُلكٍ أَو لِمَلَكُوتٍ،
يَا ٱبْنَ رُوحِ الطَّبيعَةِ الحُرَّةِ المُسافِرَةِ في الأَكوانِ،
يا مِرآةَ تَجلِّي الوَعيِ الأَعَلَىٰ في لُبِّ الأَنوارِ،
قُلها كمَا تَراتِيلُ تَسَابِيحِ صَلاةِ العِشقِ في قَلبِ العاشِقِ،
أَشهَدُ أَنْ لا أَكونَ طِينَةً بِيَدِ الفَخّارِيِّ المُتَسَلطِنِ على عَرشِ الأَرضِ والسَّماءِ،
لن أَكونَ وَقودًا لِأَتونِ الأَكاذِيبِ والخُدَعِ،
لن أَكونَ مادَّةً لِإِنشاءِ قُصُورِ الأَشرارِ،
لن أَكونَ بِضاعَةً لِتُجّارِ الرَّقيقِ والدِّماءِ،
لَا ولا دَمًّا لِأَوهَامِ أَوسِمَةِ التَّكرِيمِ،
لا ولَا دابَّةً على المَسَالِكِ يُسَوقُهَا الخَوفُ أَو الأَطمَاعُ،
ٱعلِنها أَنَّ حُرِّيَّتي حَيَاتِي،
لا أَجْنِحَةٌ مُصَفَّدَةً في حَضرَةِ الأقطَابِ،
لَيْسَت أُنشودَةَ مَهزُومٍ تَحتَ قُبَّةِ العِبَادَاتِ،
ولا غَنيمَةً تُقَطَّرُ في كُؤُوسِ الجُشَعَاءِ،
ولا تَرَفًا يَتَقَطَّرُ مِن مُزنِ مَحَافِلِ المَسَاءِ،
ولا هِبَّةً من يَدِ القَهْرِ تمنعُ وتُرسِلُ مِنهَا مَا تشَاءُ،
الحُرِّيَّةُ دَمٌ نَقِيٌّ يَسْرِي فِي عُرُوقِ القُلُوبِ،
دِمَاءٌ لا تَدْخُلُهَا السُّمُومُ ولا يَسْرِي فِيهَا إِلَّا الصِّدْقُ وكُلُّ حُسَّانٍ،
الحُرِّيَّةُ وَعيٌ نُورَانِيٌّ يُجَنِّحُ فِي الأَفْئِدَةِ النُّورَاءِ،
نُورٌ يُضِيءُ كُلَّ فَضَاءٍ،
نُورٌ يَسْكُنُ جَوهَرَ الأَروَاحَ،
وَضَحٌ يَمتدَّ فِي كُلِّ زَاهِرِ صَفَاءٍ،
أُفُقٌ لا تُغلَقُ آفَاقهُ الظُّلُمَاتُ،
الحُرِّيَّةُ هِيَ أَن تَرَىٰ فِي الرِّيحِ أَجْنِحَتَكَ كَمَا فِي النَّسَمَاتِ،
فِي الغُربَةِ أَن تَحظَىٰ بِكَرَامَتِكَ بَعِيدًا عَن حَمَاقَةِ التَّعَصُّبِ وعِبْءِ النَّزَعَاتِ،
فِي مَنفىٰ الأَرضِ تَحُوزَ كُلَّ مَا تَحتَاجُهُ لِعَدَالَةِ العَيشِ والأَمَانِ،
قُلْهَا لَن أَسِيرَ فِي رِكَابِ مَن أَرَادُوا أَن يَسجُنُوا أَنفَاسَنَا فِي العَاثورِ،
مَن أَرَادُوا أَسْرَ أَجْسَادِنَا على جُدرَانِ الصَّمتِ،
مَن أَرَادُوا حَيَاتَنَا لِلشَّقَاءِ،
مَن أَرَادُوا إِرَادَتَنَا لِخُبوَةِ الٱنطِفَاءِ،
غَفِلُوا أَنَّ لِلرُّوحِ أَجْنِحَةً لا تَرَاهَا قُضبَانُهُمُ العَميَاءُ،
وأَنَّ لِلنُّورِ دُرُوبًا تَتَسَلَّلُ مِن أَضيَقِ الشُّقُوقِ لِأَوسَعِ فَضَاءٍ،
مَن وَضَعُونَا فِي صَنَادِيقِ الٱسْتِعْبَادِ،
نَسْخَرُ مِن أَخْتَامِهِمُ الجَربَاءِ،
مِن فَزَّاعَاتِهِمُ المُخَادِعَةِ الوَهْنَاءِ،
نَسخَرُ من السَّاسَةِ المُعلَّقةِ أعنَاقُهُمْ بفَزَّاعَةِ الخَنقِ،
ونَمضِي قُدُمًا لِأَنَّ الأَرضَ أَوسَعُ مِن أَسوَارِهِمُ السَّودَاءِ،
السَّمَاءَ أَعلَىٰ مِن قِلَاعِ جَبَرُوتِهِمُ ذُو العَمَاءِ،
هُتافنَا عَلَىٰ أوتَارِ السَّلامِ يتجَاوزُ سَمَاعتهُمُ الصَّمَاءِ،
نُعلِنُهَا نَحنُ الإِنسَانُ الَّذِي لا يَمُوتُ مِيتةَ الجُبَنَاءِ علىٰ مَضجَعِ الخَورَاءِ،
نَحنُ الصَّوتُ الَّذِي لا يُخْنَقُ،
الصَّوتُ الذي لا يَعرِفُ رَبكة الاِنهِزَام،
الصَّوتُ الَّذِي لا يُبَرمَجُ فِي مَصفُوفَةِ السُّذَّجِ الأَغْبِيَاءِ،
لا يَخْضَعُ لِأَصفَادِ لَفِيفِ جُمهُورِ الغَوغَاءِ،
ٱهْتِفْ أَنَا لَسْتُ بُوقًا تَنفُخُ فِيهِ رِيحُ الفِتَنِ الخُوَارَ،
أَنَا الإِنسَانُ الَّذِي لا يُربَطُ فِي حَظَائِرِ الدَّوَابِّ،
أَنَا النَّارُ الَّتِي لا تَنطَفِئُ فِي وَسَطِ البِحَارِ،
فَلَئِن حَاصَرُونَا بِالحَدِيدِ وَالنَّارِ،
حَاصَرُوا أَجْنِحَتَنَا ورَغِيفَنَا وأَنفَاسَنَا المُتَصَاعِدَة مِنَ الصُّدُورِ،
أَغْلَقُوا عَلَينَا المُدُنَ وقَطَعُوا عَنَّا مِيَاهَ الأَنْهَارِ،
نَشَرُوا عَلَىٰ طُرُقَاتِنَا العُسْرَةَ والضَّرَّاءَ،
زَرَعُوا فِي حُقُولِنَا أَشْوَاكَ فِتَنِ البَاطِلِ والأَهْوَاءِ،
سَجَّلُوا أَسْمَاءَنَا فِي قَوَائِمِ الظُّلمِ والٱضطِهَادِ،
نَحنُ مَاضُونَ حَامِلِينَ حُرِّيَّتَنَا عَلَىٰ أَكْتَافِنَا بِأَفْئِدَةٍ تَملَؤُهَا السَّرَّاءُ،
مُؤْمِنِينَ أَنَّ المَوتَ حَقٌّ لا مَنَاصَ ولا نُلقِي بأنفِسِنَا للهَلَاكِ،
إِنَّ المَنِيَّة خَيرٌ مِن حَيَاةٍ تُبَاعُ فِي أَسْوَاقِ العَبِيدِ،
أَيُّهَا الإِنسَانُ،
ٱفْتَح عَينَيكَ عَلَى النُّورِ فَالحَيَاةُ مَلِيئَةٌ بِالإِشْرَاقِ،
ٱفْتَح عَينَيكَ عَلَى الحَقِيقَةِ لا الَّتِي فِي سَاحَةِ التَّروِيضِ،
ٱسْمَع نِدَاءَ القَلبِ لِلحُرِّيَّةِ فَالفَضَاءُ مَدِيدٌ،
أمشِ بخَطَوَاتِكَ خَارِجَ مُسْتَنقَعِ الأَوبَاءِ،
خَارِجَ الأَرضِ البَرقَاءِ،
ٱمْشِ بِصَدرٍ مَفْتُوحٍ لِنَسَائِمِ الغُيُومِ،
بِقَلبٍ يُنبِتُ أَجْمَلَ الزُّهُورِ بِشَذَا أَطيَبِ العُطُورِ،
ٱمْشِ فَالحَيَاةُ لَيْسَت إِلَّا مَا تَبعَثُ فِيهَا أَنتَ مِن أَروَاحٍ،
تَقَدَّمْ وَإِن مَشَيتَ فَلَسْتَ وَحدكَ عَلَىٰ دَربِ النُّجُومِ لِتُضِيءَ الظّلُمَات،
تَحَرَّر مِنْ أَوهَاقِ النِّفَاقِ ومَحَافِلِ الظُّلمَاءِ،
تَحَرَّر مِن رُكَامِ العَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ وَالمُعتَقَدَاتِ الَّتِي عَلَّمُوكَ أَن تَتَعَلَّقَ بِهَا بِعَمَاءٍ،
تَحَرَّر مِنْ أَخِيلَةِ الخَوفِ الرَّعدَاءِ،
لَكَ الحَقُّ كُلُّهُ أَن تَكُونَ حُرًّا لِلعَليَاء،
أَنْ تَكُونَ إِنسَانًا،
أَنْ تَكُونَ نُورًا،
هَذَا رُوَاؤُنَا مَعَ الحَيَاةِ لِنَضرَةِ كُلِّ زَاهِرٍ،
هَذَا إِشْرَاقُنَا البَاهِرُ مِن شَمسِ إِنسَانِنَا الكَامِلِ.
من ديوان حديقة النور لمؤلفه :
م . فتحي فايز الخريشا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق