الخميس، 7 نوفمبر 2019

Hiamemaloha

أنثى من رماد للأديبة فاديا حسون

أنثى من رماد ...
بقلم الأديبة فاديا حسون
قصة قصيرة ..

لم يشأ محمود مغادرة المقهى في تلك الليلة الشتائية الباردة.. وكأن جسده التصق منذ قرن بذاك الكرسي الخشبي العتيق.. أسند مرفقيه إلى الطاولة التي كانت تكتظّ بفناجين القهوة ..وعلب التبغ الفارغة.. بالإضافة إلى بعض الأوراق التي عركها بيديه غيظا حين لم تسعفه لغتُه على إكمال فكرة الرواية .. ثمة غمامة بيضاء من الدخان اعتلت سماءه .. تصحبها تنهداته المتصاعدة ألمًا وحسرة ..  كان وقْعُ القطرات في الخارج يؤججُ رغبته في البقاء.. تأمل الكرسيَّ الفارغَ قبالته واستذكر وجهها الملائكي الذي كان يؤنسه في تلك المساءات المنصرمة ..  بعد كل رشفة قهوة كان يمجّ لعابَ خيباته وجعا وينفثه سمّا مع دخان سجائره في فنجانه .. ازداد وجومُه وهو يقلّب صفحاتِ ذاكرته وكأنه يقرأ في نفسه رواية حفظها عن ظهر قلب..  أفاق من جموده على وقع نقرات نادل المقهى على ظهره المتقوّس ..التفت إليه مقطبًا حاجبيه حنقًا.. 
وازداد امتعاضُه حين أخبره النادل أنه سيغلق  المقهى.. أطفأ سيجارته عمدا في قعر الفنجان وكأنه يقتص من تطفل النادل.. ضرب بكفه المتذمر على الطاولة تاركا بعض النقود ثمن مااحتساه من قهوة..  وارتدى معطفه وجمع أوراقه.. وخرج..  
مشى بخطوات وئيدة غير آبه بحبال المطر التي تصفع  وجهه الكئيب كسياطٍ امتهنت الجلد والتعذيب..  ربما كان يستعذبها ليجلدَ بها ذاته الآثمة .. إذ أنه لطالما سعى إلى مصادرة أمجاده التليدة واقتيادها  إلى سجون نرجسيته محكمة الإغلاق.. وكثيرا ماكان يؤرّخ لإنجازاته بفخر العظماء.. هامَ محمودٌ في شوارع مدينته الخاوية.. باحثا عن وجهها الغائب الحاضر.. علّه يأتيه مع ومضات البرق وقرع طبول الرعد في السماء... أمعن النظر في حذائه الذي ازداد لمعانه بعد الاغتسال بالمطر وانعكاس أنوار الأعمدة في هذا الشارع الذي بدا كقلب أم موسى فارغا إلا منه...  توارد  صدى صوتها الملائكي إلى مخيلته كهمهمة الجياد الاصيلة في ميادين السباق.. ابتسم في سره على وقع تواترات صوتها الغائرة في عمق وجدانه وروحه  .. لكن ثمة امتعاضٌ أرعن كان يكدر ابتسامته كلما اقترب من منزله.. لابد أن زوجته ستجتث بريق الفرح من عينيه حين تستقبله بثوبها البيتي المكتظ ببقع الزيت وآثار المطبخ.. وسوف تلوّث سمعه بعبارات اللوم... على تأخره خارج المنزل.. وسوف تمطره متطلباتها اليومية التي  تضاعفُ من إحساسه بالعجز حيال أفواهٍ فاغرةٍ لاتعرف الشبع  والاكتفاء..   زوجته .. تلك المرأة التي أحبها بكل مايمتلك من مشاعر..  كان يتقاسم معها لحظات السعادة في ذاك المقهى الذي تركه للتو.. كانت جميلة شهية كوطن أُجبِر أبناؤه على العيش خارج سياجه الشائك  ...  تساؤلات كثيرة تبادرت إلى ذهنه المشوّش..  إذ كيف لتلك المرأة المنسوجة بخيوط الأنوثة الباهرة أن تتحول إلى كتلة من الجمود.. إلى ماكينة لتفريخ الأطفال.. غير آبهةٍ بتغيير صورتها التي عشقها بالأمس.. ألم تعد تعني لها تلك التفاصيل الجميلة شيئا..؟؟  فقد اشتاق إلى ابتسامة شفتيها وهي توقظه صباحا على رائحة قهوتها الزكية... اشتاقَ للقرنفلة الحمراء التي كانت تزين بها  ثوبها الصباحي الجميل الخالي من نقوش المطبخ وروائح الطبخ.. رغما عنه شعر بأنها عبثت بمداد محبرته وعصير يراعه..واقتادته إلى عالمٍ رتيبٍ مُضجِرٍ خالٍ من دهشة الشروق والغياب..  أفقدته القدرة على كتابة أجمل أشعاره .. اشتاق إلى أن يرتديها كعباءةٍ نسجت بخيوط الجمال..  هل يعقل بأن تجعله يمتهن الحيرة ولايدري كيف يصوغ أبجدية تليق بها عندما كانت حبيبته التي هام بها لسنوات.. وصل إلى باب منزله وهو يدرّب نفسه على طريقة يعيدها فيها إلى مجدها السابق... أنثى من نور .. إمرأة من سلام.. حبيبة تتفنن في ابتكار مواقف السعادة..   فكر كيف يقتادها إلى مقهى جنونه ليتقاسم معها تلك التفاصيل العِذاب.. ويتراشفان معا قهوتهما سمراء المحيا..  ويروي لها ماتفضل به عليه إلهامه المدرار كما مطر هذه الليلة الباردة..  أدار مفتاحه بحذر وقد شحن ذاته ببريق أملٍ بأن تحصل تلك المعجزة المنتظرة.. ويشم روائح عطرها الأخاذ تملأ أرجاء المكان بعد أن تطرد روائح الرتابة المقيتة التي عششت في مخيلة روحه.. وأزكمت أنف شهيته للحياة .. لكنه فوجئ بخيبته تتسيد المكان.. فكظم غيظه مرددا في سره: حقا إن زمن المعجزات قد ولّى.. 

فادية حسون

Hiamemaloha

About Hiamemaloha -

هنا تكتب وصفك

Subscribe to this Blog via Email :