بقلم الأديبة فاديا حسون
دميةٌ شقراء ... عشقَتْها يومًا بعد يومٍ وهي في طريقها الى إشارة المرور .. لتبيع الورود ... نفدت بسرعة كلُّ كمية الورود التي بحوزتها هذه الليلة ... ليلةِ رأس السنة ... تهافتَ الناسُ على اقتناء زهورِها وهم في طريقهم إلى الفنادق الفاخرة... بسيارتهم الفخمة... في هذه الليلة تعاظمت رغبتُها في اقتناء دميتها الحلم... حين لاحظت أطفالَ الأغنياءِ المترفين بالسعادة وهم يُجلِسون ألعابَهم في أحضانهم .. وهم يحتلّون المقعدَ الخلفيَّ في السيارة... كانت تقدمُ لهم الورودَ الجميلةَ.. فيدفعون لها ثمنًا بخسًا لا يُقارنُ بحجمِ ثرائهم الزائف...
وضعت عائشةُ ذاتُ الأعوامِ الثمانيةِ نقودَها في جيبِ سترتِها الصوفيّة القديمة.. واتجهت نحو ذاك المكان لتطمئنّ على دميتها... كانت تخشى أن تكون قد غادرت واجهةَ ذاك المتجر... وذهبت لتمضي إحتفال رأسِ السنة برفقةِ إحدى الطفلات الثريات .. وصلت لاهثةً والحلمُ يزمجرُ في أوصالها المرتعدة... وتنفّستِ الصعداءَ حين وجدتها قابعةً خلفً الزجاج... رمقتها بابتسامة ودّ قديمة .. وكأنها حصلت على كنزٍ ثمين... تلمّستِ النقودَ في جيبِها المبتهج اليوم على غير عادته... لكن سرعان ما تراءت على زجاج المتجر صورةُ أمها القابعةِ في فراش المرض تنتظرُ عودتَها بفارغِ الصبر... لتأتيَ لأخوتها الصغار ببعض الخبز والجبن... اهتزّت عائشة من أعماقها ... تدحرجت دمعتان من مقلتيها الحالمتين... اكتوى الخدّان من حرارتِها... أغمضت عينيها للحظات... تخيلت نفسها تحتضنُ الدميةَ.. شدتها الى صدرها الصغيرِ بشوقِ المشتاقِ الى طعم الامان.. حاكت لها شالًا صوفيّا بخيوطِ عجزها وخصاصتها.. دثّرتها من صقيعٍ قاسٍ يلفُّ أطرافَها وينخرُ عظامَها .. سافرت بها إلى بيوت الأثرياء.. أبهرتها أضواءُ شجرة الميلاد .. وأرهقها منظرُ الموائد المتخمة بأشهى الأطعمة .. أخذت عائشة تقبّل دميتها بلا حدود مغمضة عينيها على حلمٍ كبير... أفاقت فجأة من حلمها على صوتِ بائعِ الخبز المتجول... استدارت إليه.. حدّقت بحزن بآخرِ كيسٍ خبزٍ متبقٍ لديه.. ارتسمت عليه صورة إخوتها الصغار الجائعين... أخرجت نقودها وناولته ثمنها.. أمسكت الخبز بيمناها باستسلام... ومسحت بيسراها عبراتها الساخنة... أشاحت بنظرها عن دميتها وهي تتمتم في قلبها... اِنتظريني هنا.. أرجوك لاتبرحي هذا المكان... سأكتفي بالنظر اليك كل يوم...
ومضت بخطوات ثقيلة لتكملَ شراءَ وجبتهم اليومية... وبعض الأدوية المسكّنة لأمها المتعبة... مشت بحزنٍ محاوِلةً كمَّ أنفها عن روائحِ الشّواء التي سيطرت على أجواء ليلة رأس السنة الميلادية... بينما كانت سماء كانون المظلمة تضيؤها المفرقعاتُ والألعابُ النارية ابتهاجًا بولادة عام جديد...
كل سنةٍ وأطفالُ وطني مِعَدُهم ممتلئة....
فادية حسون .