نلتقي مجددا في فقرة إضاءات نقدية بمنتدى نبض القلم للشعر والأدب مع نص قصصي قصير موسوم ب
" أنين الذاكرة " للكاتبة المغربية الزهرة الحميمدي .
النص يتحدث عن شخص وحيد فاقد الذاكرة جالس على عتبة بيت مهجور ، شريد الذهن يبحث جاهدا في ذاكرته المتعبة عن شيء ضاع منها ، يبتسم يضحك ، ينظر الى نخلة من بعيد متوسلا منها الكلام لتحكي ، يسكت ليتذكر بعد فقدان إدراكه قبل أزيد من عشر سنوات حادثا مروعا فقد على إثره زوجته وابنهما الرضيع بينما بترت أصابعه الخمس .
فيما مضى عانقته أمه ذات صباح يوم باكية بعد الحادث وفقدان ذاكرته وشللها حيث أفاقت لتجده واقفا يتمعن صورة تجمعه بزوجته الراحلة وهي الفتاة التي شاء القدر أن يلتقي بها في مبارة ولوج المدرسة الإدارية ويكون القلم الذي سلمته إياه ليكتب به ويحتفظ به بعد ذلك بداية علاقة حب انتهت بالزواج ، والدته المكلومة التي كافحت من أجل استشفائه تسأله عن تذكره زوجته فلم يجبها ، تفتح بعدها حقيبته بها أشياءه الخاصة منها رسالة مكتوب عليها :
" بهذا القلم سطرت حياتي " ، أعطته أمه القلم فقابلها بالصراخ وتكسير كل ما صادفه أمامه ، يدخل غرفته بشكل هستيري فيغمى على أمه ويحملها الجيران إلى المستشفى وتفارق الحياة .
تزداد حالة بطل القصة سوءا بعد رحيل امه ويصبح عرضة للإهمال والتشرد والإهانة والترحيل بين المدن .
تدور الأحداث لتشاء الأقدار مجددا و يعود إلى مدينته في رحلة تشرد قاسية ويحل ببيته المهجور ، ينظر من خلال نافذة كسر زجاجها ، يجد كل شيء في مكانه على حاله : الصحون والأواني والغربال المعلق وإبريق القهوة الأزرق ومعطف والدته وراء الباب والمبخرة النحاسية فيتسلل إلى ذاكرته عبق المسك والصندل ويخيل إليه ترديد الراحلة أمه التعاويذ والدعوات بشفائه .
" أحس بالدوران.. فجلس فوق العتبة ينتظر قادما قد يأتي ليفتح له البيت المهجور… "
نص الكاتبة الزهرة الحميمدي اشتغل على الذاكرة أساسا التي هي خزان الإدراك ، فنحن أمام بطل القصة الذي فقد ذاكرته إثر حادث مروع ذهبت ضحيته زوجته الغالية وابنهما الرضيع
لكن النص صاحبنا في ذاكرة متقدة سردت لنا تفاصيل أجادت الأديبة في تصويرها بصورة مذهلة ، فأحداث القصة جاءت بين مقدمة ونهاية متشابهة تماما : جلوس البطل الشريد على عتبة بيته المهجور ، فهل تذكر الأحداث المؤسفة القاسية التي مر منها جاءت في أوبة إدراك خاصة به لحظة وصوله إلى عتبة البيت أم هو سرد للكاتبة نفسها ، فهناك من التمظهرات ماقد تدفع البطل الى استعراض شريط الأحداث ، فعندما نظر إلى النخلة التي وصفتها الكاتبة بالوقور تمنى الشريد أن تتكلم لتحكي ، وعندما شاهد من خلال نافذة البيت المكسور زجاجها حاجيات أمه الراحلة تذكر أشياء مضت ، وعندما تخيل ترديدها التعاويذ والدعوات بشفائه امتثل أمامه طيفها ، وعندما أحس بالدوران وجلس فوق عتبة البيت ينتظر قادما قد يأتي ليفتح له البيت المهجور فإنه كان يبحث عن خلاص متلاشي .
النص اشتغل على الصدمة النفسية التي ينتج عنها جموع الذهن وبعده تلاشي الإدراك والتركيز ويصبح عرضة لفقدان الذاكرة ، فالحادث الذي لم تصفه الكاتبة كان مابعده كافيا لتصوير خطورته على بطل القصة ، لكن ضياعه بالكامل بقي مؤجلا لوجود أم ظلت بعد الحادث ترافقه و تكافح لاستشفائه وعودته إلى الصواب .
تستدعي الكاتبة القلم الذي احتفظ به البطل لنفسه بعدما تسلمه من فتاة ستكون زوجته لاحقا ، هذا القلم الي دشن علاقة جميلة بين البطل وفتاته سيكون كاتبا لنهاية الأم في مشهد مؤلم حزين ، القلم الذي حرك في نفسه مياه راكدة وتتحول الى بركان هادر ، فربما يكون القصد مخالفا لوقوع النتائج المؤلمة ، الأم أرادت أن تساعد ابنها على استرداد ذاكرته إلا أن ذلك تطلب حياتها وبعدها سيصبح البطل شريدا مهانا بدون سند ولا حصن منيع ، وعرضة الى الترحال بين المدن والقرى كبضاعة بخسة .
نجد أنفسنا أمام عنوان مركب : " أنين الذاكرة " ، فالأنين صوت خافث ينبعث من شخص يعاني ربما في صمت ، والذاكرة تشتغل دوما في صمت ، فهل البطل يعاني من أنين ذاكرته في مشهد إدراك مبطن ؟ .
نص الكاتبة الزهرة الحميمدي استجاب لمحاور القصة وعناصرها من بداية شبيهة بالنهاية وشخوص وزمان ومكان .
أسلوب النص جنح الى السلاسة والانسياب المؤدي إلى المعنى المقصود .
ويبقى نصنا لهذا الأسبوع عميقا مادام اشتغل على الذاكرة والعاطفة والصدمة والأمومة والفقد والحب والإهمال ووضع المشردين في البلدان العربية .
نلتقي مع نص آخر في الأسبوع القادم بمشيئة الله .
إلى ذلك الحين نستودعكم الله .
______________________"""""""___________________
-أنين الذاكرة -
على عتبة البيت المهجور ، جلس وحيدا . وكأنه يتذكر شيئا , كان ينظر بعيدا … هناك حيث ترقد أجمل ذكرياته , وكأنه يبحث في ذاكرته المتعبة عن شيء ضاع منه ... كان يبدو شريدا, لا شيء لديه غير أسمال بالية ، على كتفه رداء أثقل من الزمن , وفي عينيه نظرات لا قرار لها … ابتسم، ثم ضحك بصوت عال وهو ينظر إلى النخلة الوقور في آخر الحي. ليتها تتكلم لتحكي ... وبعدها سكت طويلا وكأنه يتذكر شيئا … قطب جبينه وهو لا يصدق أن بعض الصور والألوان بدأت تبدو واضحة لذاكرته التي فقدها منذ عشر سنوات أو أكثر . لم يصدق وهو ينظر إلى أصابعه الخمسة التي بثرت على اثر الحادثة المروعة التي غيرت مجرى حياته والتي شاء له القدر أن ينجو منها, بينما ماتت زوجته وابنهما الرضيع .
عانقته أمه وهي تبكي, لأنها كانت تدرك أن مصيره سيكون مظلما من دونها …سيرفضه الأهل والأقارب, وسينساه الأصدقاء والجيران … لن يقبله المجتمع مشلول الذاكرة عاجزا عن التفكير أو التفاعل مع الناس . كم حاولت وبشتى الطرق أن تخرجه من البئر العميقة المظلمة , لكن دون جدوى . أفاقت ذات صباح فوجدته واقفا في صمت أمام صورته مع زوجته يوم عرسهما . استبشرت خيرا ولم تكلمه … دخلت إلى المطبخ لتهيئ قهوة الصباح لعل رائحتها تعيد إلى ذاكرته أيامه الجميلة مع زوجته التي لم يحب غيرها . كانت فائقة الجمال, عالية الأخلاق, تعرف عليها بعدما نجح في الباكالوريا وسافر إلى مدينة الرباط ليجتاز مباراة لولوج المدرسة الإدارية. كانت جالسة على اليمين في الصف الثاني , وطلب منها قلما ليكتب به, فأعطته قلما اسودا وهي تبتسم . وعندما رجع من القاعة أرجعها إياه شاكرا فامتنعت عن استرجاعه منه, وسألته كيف يأتي مرشح للامتحان من غير أدواته اللازمة , فأجابها بان القدر شاء له أن ينسى القلم لكي يكون سببا في التعرف عليها … واسترسلا في الحديث وكأنهما يعرفان بعضهما منذ مدة طويلة, ثم افترقا كل منهما في قطار ليلتقيا من جديد بعد سنتين وقد حددا موعد الخطوبة والزواج . وكما كان لقاؤهما قصيرا كانت مدة زواجهما أقصر …
لم يبق طبيب إلا وأخذته أمه إليه ولا فقيه إلا وتوسمت فيه الخير والأمل . باعت كل ما تملك من اجله لكن دون جدوى لا الحلي ولا الجواهر أعادت له الذاكرة التي هي أغلى جوهرة عند الإنسان …
عادت أمه إلى الغرفة وهي تحمل له القهوة كان ما يزال أمام الصورة ينظر إليها في صمت ربتت على كتفه وسألته هل تذكرها . لكنه لم يجبها واسترسل يدقق النظر في الصورة .
أسرعت إلى حقيبة كانت ما تزال فيها كل أشيائه … فتحتها لتجد أوراقا وبعد الدفاتر وغلاف رسالة مكتوب عليها : بهذا القلم سطرت حياتي
أدمعت عيناها وتذكرت ذلك اليوم الذي عاد فيه من السفر ليحكي لها عن أجمل فتاة تعرف عليها وأعطته القلم الأسود ليكتب به . أتراه بنفس القلم سطر القدر له مأساته التي لا تقوى على حملها الجبال … ناولته إياه ,لعله يكون فاتحة خير عليه ويخرجه من صمته. لكن ما أن رآه حتى بدأ يصرخ بأعلى صوته وكأن بركانا انفجر في أعماقه ليحرق ما تبقى …
ولم يتوقف عن الصراخ وهو يكسر كل شيء أمامه … وهرع الجيران إلى البيت الذي عهدوه هادئا تسود فيه السكينة والسعادة … وكأن الخوف اعتراه, فدخل إلى غرفته وأغلق عليه الباب. بينما أغمي على أمه المسكينة, فأخذوها إلى المستشفى , وهناك فارقت الحياة.
ازدادت حالته النفسية سوءا بعدما بقي وحيدا. فغادر البيت حافي القدمين, وتاه في الطرقات والأزقة .. . , وكان من سوء حظه أن صادفته حافلة تجمع المشردين والمختلين عقليا, لتبعدهم إلى مدينة أخرى … وهكذا بقي أكثر من عشر سنوات يتوسد الأعتاب في العراء ويقتسم مع المشردين مصيرهم المجهول وواقعهم المظلم … فكم رحلوه من مدينة إلى أخرى وكم أيقظوه في جنح الليل ليلقوا به في ساحة من ساحات إحدى المدن أو في سوق من أسواقها .
كان ما يزال جالسا على عتبة البيت المهجور حين ناولته سيدة كسرة من الخبز, وضعها جانبا, وتحسس وجهه الذي كان ما يزال يؤلمه, لان الرجل الملثم ضربه بلكمة قوية حين رفض النزول من الحافلة ثم دفعه بقوة ليسقط على جدع شجرة مقطوعة . فارتطم رأسه به وأغمي عليه, ليفيق عند الفجر على نباح كلاب ضالة .فتح عينيه مذعورا وحاول أن يوقف شاحنة زرقاء توغلت في الغابة لتفرغ ما تحمله من أزبال ونفايات …
مشى في ذلك الليل المظلم طويلا وأدرك مع بزوغ الشمس أنه على مشارف مدينته التي أبعدوه عنها … وهو يمشي بخطى سريعة, لم يكن يسمع غير أصوات البوم وغصون الأشجار تكسرها الرياح القوية … كانت السيارات تمر بسرعة كالبرق.و كم لوح بيده لأكثر من سيارة لتساعده, لكن دون جدوى. لان شعره الطويل المشعث, ولحيته المسدلة على صدره وأسماله البالية التي تحمل أوساخ الزمن, جعلته يبدو كوحش مخيف . كان يمشي ولا تزيد الطريق أمامه إلا طولا.أسرع الخطى لكي يصل إلى المدينة التي ستكون حتما قد تغيرت ملامحها بزحف غابات الاسمنت والحديد . وأخيرا وصل إليها … وظل اليوم كله يبحث عن بيته , أدركه المساء فواصل البحث بجسد منهك وقلب مفعم بالشوق والحنين الى كل الذين ودعتهم ذاكرته في ذلك اليوم المشؤوم … كان يسأل الناس فلا يجيبه أحد. واصل السير بخطى ثقيلة حتى وصل إلى البيت المهجور . كانت النوافذ مغلقة … وعلى الباب قفل حديدي يعلن عن غياب طويل للأهل والأحباب . كم تبدو الأبواب المغلقة حزينة … أطل من نافذة صغيرة تكسر زجاجها, ووقف يتأمل طويلا…كل شيء على حاله كما تركته أمه الغالية : الصحون, والأواني والغربال المعلق على الجدار والإبريق الأزرق الذي لا تتقن إعداد القهوة فيه إلا هي: أمه الغالية. ووراء الباب معطفها, وعلى الطاولة آخر ما لمست يداها : المبخرة النحاسية . وتسلل إلى ذاكرته عبق المسك والصندل … وكأنه يسمع الغالية تردد التعاويذ والبسملة والدعوات له بالشفاء …
أحس بالدوران.. فجلس فوق العتبة ينتظر قادما قد يأتي ليفتح له البيت المهجور…
بقلم الكاتبة المغربية : الزهرة الحميمدي . المغرب .