... السراب ...
جلس إبراهيم في الحديقة يتأمل طفله الذي يبلغ من العمر ثلاث سنوات، ويراقبه وهو يلعب ويرمقه بنظرات مختلطة بين الحب والحنان والخوف، فهو طفله المدلل الذي يخاف عليه من نسمة الهواء.
وبينما هو يلاعب طفله، مر شاب ومعه والدته ويبدو عليها المرض والوهن والتعب، وجلسا بالقرب من إبراهيم.
أخذ إبراهيم يتأمل تلك المرأة وبجانبها ولدها، لكن ولدها كان جالسا معها جسدا فقط، فهو غارق في هاتفه بين فيس بوك وتيك توك وسناب وغيرها، تارة يضحك وتارة تبدو عليه ملامح العصبية، وتلك الأم المسكينة تحاول أن تتسول من ولدها كلمة، لكنه حاضر غائب، لاه بهاتفه، أصم عن حديث أمه، وأبكم في الحديث معها، وأعمى عن رؤية مرضها وحاجتها.
هنا وأمام هذا المشهد شعر إبراهيم ببركان غضب يجتاح صدره وقلبه، وتمنى أن يصفع هذا الشاب صفعة يوقظه بها من الوهم والسراب الذي يعيشه مع الهاتف.
شعر بضيق في صدره، فأخذ طفله وعاد لبيته...
جلس في غرفته مع ذكريات استيقظت في داخله لتمزقه ألما ووجعا، فذلك الشاب ذكره بنفسه التي عاشت تلهث وراء السراب أياما وشهورا وسنين، وكان الثمن أن يفقد والدته بغمضة عين.
فحين بلغ ابراهيم الثمانية عشرة عاما، التحق بالجامعة، فأهدته والدته هاتفا أحدث موديل، وبالطبع فرحته كانت لا توصف.
وفي هذا الوقت، كانت بعض برامج التواصل الاجتماعي والواتس اب وغيرها قد بدأت تجتاح العالم، وكانت شيئا جديدا ومبهرا للشباب، فعاش إبراهيم مع الهاتف وسخر له كل وقته وطاقته، واصبح أسيرا له، حتى أنه أهمل دراسته بسببه وهو يلهث وراء إعجاب هنا وتعليق هناك...
ومرت شهور على هذا الحال، يعيش مع الهاتف وللهاتف فقط، وان تكلم مع والدته فكلامه فقط لطلب الطعام او المصروف.
وبدأت الام تشعر بآلام في جسدها، وتطلب من ولدها أخذها للطبيب، وكان الرد دائما -أنا مشغول- الاسبوع القادم أحجز لك موعدا، لكن الأسبوع القادم مر عليه أسابيع وشهور ولم يأت، إلى أن استيقظ إبراهيم يوما على صراخ والدته تستغيث من الألم، فحملها للمستشفى وبعد اجراء الفحوصات تبين أنها تعاني من تلف بالكلى وتحتاج لغسيل الكلى مرتين أسبوعيا، وهنا بدأت معاناة الأم مع هذا المرض الصعب، ومرت سنة واثنتين وثلاثة، والام تتمزق ألما، وإبراهيم يعيش مع هاتفه، حتى دواء والدته كان كثيرا ما ينساه، وهذا أثر سلبا على صحتها.
وانهارت آمال الأم بابنها الوحيد الذي أفنت حياتها لأجله بعد وفاة والده، حتى جاء ذلك اليوم الذي استيقظ فيه إبراهيم من مستنقع السراب الذي يعيش به، لكنه استيقظ متأخرا جدا.
ففي ذلك اليوم عاد من جامعته، وهاتفه بيده، ونسي أن يتفقد والدته بغرفتها، فجلس بغرفته على الهاتف فخورا مختالا بنفسه وانجازاته في جمع الاعجابات على صوره ومنشوراته، ومرت ساعتين وثلاثا، فتذكر والدته التي تأتي غرفته حبوا لتتفقده كلما عاد للمنزل.
هرع إلى غرفة والدته، نادى عليها لكنها لم ترد، ووجدها قد فارقت الحياة.
هنا علم أنه قد عاش في سراب جعله يخسر من لا تطيب الحياة إلا بها وبوجودها وبرضاها...
وكأن سهما اخترق قلبه ومزقه، صرخ بأعلى صوته ( أمي سامحيني، أنا لم أشبع منك ولم ارتو بعد من حضنك وحنانك، حرمت نفسي من اللحظات الحقيقية الجميلة وعشت في وهم وسراب سرق سنوات من عمري وسرق معها جنتي على الارض)...
واستيقظ ابراهيم من ذكرياته المؤلمة ليجد نفسه غارقا بدموعه، وبيده صورة والدته التي رحلت وحيدة وتركته مع عذاب ضمير وندم يرافقه كظله.
بقلمي/ بيسان مرعي