العم كمال
22/11/2024
عندما سافر كمال إلى أمريكا الشمالية، كان عمر داود ابن أخيه سنتان وبضعة أشهر...
كمال كان يحب داود كثيراً، وأكثر ما حرق قلبه في الغربة شوقه إلى شقاوة ذاك الصبي ، حكاياته، لغته الطفولية المضحكة، حركاته، وتصرفاته، وكان ذلك يحرق قلبه حنيناً واشتياقاً... غير شوقه إلى الوطن وناسه، فطفح فيه الحنين، فقرر العودة إلى بلده وأرضه في سورية. كان يقول في ذاته الناس يحسدونني لأنني أجني الذهب الأصفر. ولا يعرفون بأن الحنين والشوق هما داء أصفر لا ذهب أصفر ...
المشكلة لم يكن قادرا على شراء بطاقة المركب أجرة العودة ،
عندما وصل إلى أمريكا، أخذه صديقه ليعمل معه في مطعم يجلي الصحون، وأعمال وضيعة أخرى...
لكن سوء معاملة صاحب المطعم، الذي كان يستغل جهده تقريبا بالمجانا، جعله يخلع مريول العمل، ويلقيه في وجه صاحب المطعم ، وقال له نحن ملوك في بلادنا، لن نكون عبيدا في بلادكم... وطلب من صديقه أن يترجم له ما قاله. وخرج شامخ الرأس. مؤكدا في ذاته العودة إلى الديار ...
لكن من أين المال، هو لا يجيد صنعة... ولا يجيد الإنكليزية. ولا يعرف أحدا يساعده.
فصار يتجول في الاسواق على غير هدى، يراقب الناس ماذا يفعلون، ماذا يبيعون، وماذا يشترون؟
ذات يوم، في أحد الشوارع، شاهد تجمهر غير عادي أمام احد المحلات، تجمهر مع المتجمهرين لمجرد الاستطلاع والفضول...
متجر كبير متخم ألبسة أطفال، كاسر اسعاره بغية تصفية بضاعة نهاية الموسم...
فكر كمال أن يشتري بعض الألبسة ليأخذها معه هدية إلى سورية إلى حبيبه داود ...البسة جميلة وبسعر زهيد، اشترى منها وأخذها إلى حيث يسكن في منطقة شعبية مكتظة بالسكان، سأله جيرانه اذا كان يبيعهم تلك الألبسة التي اشتراها... عز عليه أن يبيعها لانها هدية منه إلى داود لذلك طلب سعرا عاليا علهم لا يشترون .لكنهم اشتروها شاكرين...
ذهب في اليوم التالي واشترى غيرها وأيضا باعها وربح فيها الكثير ، ثم اشترى كمية أكبر ، وباعها جميعها ... وقال فعلا تسع أعشار الرزق في التجارة. وهكذا اشتري وأبيع وأجمع قيمة بطاقة عودتي.
وصار يوميا يذهب إلى السوق يشتري ويبيع في حارته، حتى نفقت بضاعة ذلك المحل... فأخذ يبحث عن المحلات التي تعلن عن تصفيات ويشتري منها قبل الظهر ويلازم سكنه بعد الظهر يستقبل الزبائن في الحارة الراغبين في الشراء...
البسة جديدة، ورخيصة، وجميلة، لذلك كان يبيع ويبيع...
لم تعد غرفته صالحة لعرض المشتريات، لذلك عندما أعلن أحدهم في حارته عن رغبته تسليم محله، جرت مفاوضات مع المالك، استأجر كمال المحل وأسماه متجر داود للألبسة الجاهزة... واشتهر المحل باسم (دافيد ز ستور).
اشتهر (متجر دافيد) وكبرت تجارته، وتضخمت أرباحه...وصار معه مالا، فكبرت أحلامه وفكر بتجميع المال ليفتح عملا في سورية، حتى لا يقال بأنه عاد بخفي حنين.
أحد المحلات في السوق الرئيسية أعلن عن تصفية كبيرة لبضاعته ، العم كمال صار عنده خبرة في السوق وصار معه رأسمال معقول، ذهب إلى ذلك المحل وفاوض صاحبه على شراء كامل الكميات المعروضة، دفع نصف الثمن، وقسط النصف الآخر بموجب سندات مالية وأمانة إلى حين.
كانت تلك الصفقة، هي النقلة النوعية الكبيرة التي ضخمت رأس مال كمال أضعافا، وجعلت حانوته معرضا كبيرا.....
بعد سنوات، من العمل الجاد منذ الصباح حتى منتصف الليل. حتى يسدد دينه. أحبه الناس، وصاروا يسمونه العم كمال.
استأجر محلا في السوق الرئيسية وصار متجر (دافيدز ستور) واحد ا من المتاجر المشهورة ببيع ألبسة الأطفال الجاهزة...وأصبح كمال أحد التجار المعروفين في سوق المدينة الكبيرة...
هو لم يعد يبحث عن المحلات التي تكسر أسعارها، صار هو الذي يكسر في أسعاره ويبيع الفائض من الألبسة لديه الى المحلات الصغيرة...
بعد ذلك صار يبحث عن تجار الاقمشة ذاتهم ويشتري منهم الاقمشة، ويتعامل مع ورش الخياطة، يسلمهم الأقمشة والموديلات الرائجة في السوق، ويسلموه البسة جاهزة حسب طلبه...
تطور عمله ووظف عنده بائعات، كما وظف صديقه الذي ارسل له طلب زيارة إلى أمريكا والذي لا يزال يعمل نادلا في ذلك المطعم ، وأسماه مدير متجر (دفيد ز ستور) لألبسة الأطفال. وتفرغ هو يعقد صفقات يبيع. الألبسة الجاهزة ، ويشتري أقمشة يصنعها في ورش الجياطة ... وهكذا توسعت أعماله، وتضخمت امواله في المصارف...الحقيقة كان يؤجل عودته إلى الوطن سنة بعد سنة. وغرق في العمل .
وظف عنده سكرتيرة ترتب له شؤون مكتبه ومواعيده. شابة جميلة، سرعان ما خطفت قلبه الفارغ ، وغرق كمال في الحب .
اشترى منزلا جميلا بالتقسيط المريح واقتني سيارة وتزوج تلك السكرتيرة...
كمال لم ينس بيت أخيه، كان يحول لهم الأموال باستمرار وعاشوا في بحبوحة مرتاحين في زمن الفقر.
داود تخرج مهندساً من جامعة دمشق وفتح مكتباَ هندسياً، هو واثنان من زملائه.
ورغم ذلك لا يزال داود في فكر عمه ذاك الطفل ذو الثلاث سنوات وﻻ يزال عمه يتذكر كلماته وضحكاته وتلك الحركات الشقية...
دلائل جعلت كمال يكتشف بأن زوجته تسرق من أمواله وتعطيها إلى عشيق لها، جن جنونه ورفع عليها دعوى لإعادة الأموال المنهوبة، ودعوى طلاق تمت بإعادتها إلى الشارع....
تلك الصدمة من الحب جعلته يتوقف عن العمل، وقال حان وقت العودة إلى سورية.
ركب طائرة بالدرجة الأولى إلى أوروبا ومنها إلى سورية.
صار له استقبال من بيت أخيه له وحبيبه داود ، والمستقبلين أهل بلده أفرحه وبدأ الهدوء يعود إلى قلبه، عندها قال ضاع عمري في الغربة...
كان يذهب كل صباح إلى المزرعة المتصحرة ، وقرر إعادة الحياة لها، وفعلا جعلها مزرعة نموذجية .
تزوج كمال واحدة من بنات القرية، وأحس بالفارق الكبير بين الحب الحقيقي، والحب المزيف...
كتب كمال وصية مسجلة قانونيا بتمليك نصف أملاكه إلى داود ، لأنها اساس ثروته أساسها تلك الألبسة الجاهزة التي كان سيحضرها هدية إلى حبيبه داود.
بقلمي/. عبده داود