الأحد، 9 فبراير 2025

Hiamemaloha

رقصات تهور فوق منصات الذاكرة للكاتبة سمية قرفادي

 ".الشوق إليك آفتي".....-سمية قرفادي-


رقصات تهور فوق منصات الذاكرة.


ها هي ذاكرتي تحملني على ذات مرح، تسترجمني الصور من محميات زمن ولّى، تكركسني إلى زوايا البوح الجميل، وهي تدغدغ مخيلتي، تهدهد وجداني، ترفعني كمنطاد إلى قمم خيالي، كي تنزلني إلى أرض الواقع مندهشة مخدوعة بسراب الأحداث الملفوفة في قلب الزمن.

ما يسعني إلا أن أصب صبيب الإطراء على ذاكرتي، أمنحها التنويه والثناء على يخضور صورها، خصوبتها اليانعة، لا تزال قريتي الواقعة وسط مآثر "بناصة" الرومانية ملاذ حلمي الطفولي، لكن باتت العودة إليها في تلك العطلة الصيفية جد محزنة، بفقدان وجه ودود، حليم، عطوف، إنها "حنا الشعيبية" زوجة جدي، تلك الجميلة التي كان يتفشى داء الضرائر بينها وجدتي، فجعت كثيرا لموتها، لولا استحيائي لرثيتها علانية كأن أقول مثلا "يا كبدي يا حنا... يا عيون المها يا حنا ... يا بشرة بيضاء كالحليب يا حنا ... يا قوام ممشوق كرئمة الجبال يا حنا ... يا ذات الشعر الفينان الأشقر يا حنا ... تبا للدود الذي سينخر ذلك الجسد الطاهر ... يا عوينتي يا حنا ... يا حنا ... يا حنا ..يا حنا.....

كنت أدعوها هكذا، لأن لفظ "حنا" تحمل لي حروفه نبع الحنان، العطف والاحتضان، يطرد عني السأم، يدخلني في بساتين مثمرة من الحب والأمل. من غرفة خالي يتراءى لي طيفها قادم من المقبرة بمأزرها الأبيض اليقق، أثناء نوم الجميع كنت أراقب صفحة وادي سبو ليلا، منظر مزين بالفزع، لون التربة الكلسية السوداء تنثر هي الأخرى غبار اليأس، نباتات عشوائية شائكة هنا وهناك ... نقيق الضفادع ... حفيف الأوراق ... بيوت طينية مبنية بالقش والطوب ... هنا بيت خالي، وذاك بيت خالتي، خشخشات تتلقاها أذني من كل حدب وصوب، صفير صرصار الليل يشدو ... نعيق البوم يحمل الشؤم ... 

صباحا، صرت مرابضة تحت أغصان شجرة البيلسان بأزهارها البيضاء، أتذكر حكايات "حنا الشعيبية"، حكاية "هنية"، تلك الفتاة الوسيمة ابنة الحطاب، كانت تحتطب في غابة كثيفة الأشجار، رمقت عودا منمقا فحملته، ما إن خطت خطوة تلو الأخرى، حتى كبرت رزمة العيدان، وصار العود الجميل وحشا ضاريا، بأنياب حديدية، ومخالب معقوفية، كانت قلوبنا ترتعد خوفا، فيُخيم على جوارحنا الصغيرة طيفه لعدة أيام، نخشى الخروج ليلا كي لا يلتهمنا، كانت حشريتي تقودني إلى اكتشافات أخرى، وسهولة تكيفي مع ظلام القرية يبدو صعبا، بالرغم من هذا وذاك، لكم أحببتك قريتي، كنت أرفرف حبورا إذا ما علمت أننا سنزورك جميعا، أحمل كتبي، قصصي، كي أستعذب متعة القراءة على مشارف ضفافك، تتملكني رغبة جامحة في زيارة آثارك والجلوس فوق صخورك متبجحة أمام أبنائك وبناتك، مخاطبة الأوروبيين الأجانب الذين يفدون لزيارة مآثرك، كنت أعجب بثيابهم ... بشرتهم البيضاء التي تحمرّ بلفحات الشمس الحارقة ... عيونهم الزرقاء والخضراء ... لباسهم الحاسر ... ونساؤهن اللواتي تدخن أمام الملأ ... 

أية وقاحة هاته !

 هكذا كان يخاطبني عقلي الباطني، كي لا أحدو حدوهن، بالرغم مما يقمن به، يسرني تقفي خطاهن، كانت الآثار تبعد عنك بضعة كيلومترات، أزوركِ سيرا على الأقدام، شعري يتدلى سبطا على كتفي بسواد حلبوبي وقدّ ممشوق، مع طول فضولي الوارف، كسروة بين جبال الأطلس، في الواقع كان اللهو والمرح ديدني، أعشق الأهزوجات الشعبية، أغني مع فتياتكِ، ونحن نقرع الدفوف، نردد المواويل، ننحث التماثيل بطينك الأسود، نطيح بأعشاش العصافير، ولا نعتبر ذلك جرما.

الآن ! 

كأنني أسمع صوت صدى خالتي يتردد عبر الزمن، تناديني باسمي تارة، وأخرى تحث أمي هاطلة بنصائحها، كسحابة وارفة المياه.

- قائلة : يا أختي علميها فنون الطبخ وأساليب العجن، درّبيها كل ما يخص النساء، انفضي عنها غبار اللهو واللامبالاة، مهما تعلمت الفتاة مآلها بيت زوجها لا محالة.

أية حماقات هاته ! 

ها هي تدربني استحلاب الأبقار ليلا، لأنهم يلبنون ربيعا، تحمر عيناي غضبا، كان الوقت متأخرا وأنا أتلكأ وسط الأحجار الكلسية، لا أحد في الحظيرة سوانا، خالتي، أمي، وأنا، الليل يخيم بهدوءه، الأبنية متباعدة ما جعل النجوم تبدو متلألئة أكثر، مصابيح القرية هنا وهناك، لكنها خافتة.

ها أنا أمسك بضرع بقرة حلوب، شرعت في الحلب مباشرة، أصوات الضفادع من حولي، نهيق الحمارة الصهباء في أذني، بثوا فيّ رعبا مضاعفا، بحركة فجائية ركلتني البقرة المستوحشة، حتى انكفأ الدلو الحديدي.

يا إلهي ... ! 

الحليب رشّ ملابسي، وجهي، غمر حذائي الجديد.

- تقول خالتي : ما إن ترون الحليب مستدفقا، إنها بشائر الخيرات ... هيّا ... هيّا ... تفائلن خيرا تجدنه.

صرت أمسح قطراته بظهر كفي، من وجنتي وعينيّ اللتين اغرورقتا دمعا، حسراتي أمطرت دواخلي، كأنني أرثي حذائي الجميل.

- قالت خالتي : أتبكين يا ابنة أختي ؟ 

- أنا لا أبكي يا خالتي.

أخاطبها مشمرة جادة في الأمر، رأسي منحنيا، كي أخفي دموعي، الإرهاق العصبي والذهني يجلجلاني.

- قالت : ما هي إلا قطرات حليب، لماذا القلق ؟

كانت تنظر إليّ بعنين منتصبتين على جسد البقرة الحمراء، كأنها تعاتبها على فعلتها، قربت وجهي لأذنها اليمنى. 

- وهمست : لكنني سوف أقلق كثيرا إذا أمرتموني بحلب هذه المستوحشة مرة أخرى، ضمتني إلى صدرها، والحنو يتقاطر منه، سمعت صوت زوجها ينادي : 

- هاتوا الحليب، إننا بحاجة إليه.

نظرت إلى أمي التي غمرتها خيبات كتذمري ليتغير برنامج العشاء من رفيسة بالحليب إلى بيض مقلو بالزبدة والشاي.

لعل اليوم الذي يستهويني هو عزل الحنطة من الحسك والطوب، سقي النباتات بماء سبو، مخض الرائب، استخلاص الزبدة.

أي جنون هذا ! 

ها أنذا أخلط الدقيق بالماء، لصنع خبز يدوي من القمح الخالص، سأطهوه وحدي في الفرن الطيني التقليدي، هي إحدى وصايا خالتي التي لا نهاية لها، في غمرة حبوري العارم، جمعت القش والتبن، أحضرت اعواد الثقاب، أضرمت النار بدون مقدمات، فجأة قوقآت من داخله أفزعتني، يا رحمان ! إنها الدجاجة الرقطاء مع كتاكيتها الصغار، الريش يتطاير محروقا في الفضاء، روائح جلودهم صارت عفنة، تفشت في كل مكان، عوض إسعافهم قمت بإغلاق أذني كي لا أسمع تفرقع أجسادهم.

يا رافعا أعمدة السماء ! 

تفشى الخبر بسرعة، النيران تتلظى كبرق خاطف، هبّ الكل مذعورين، مرتجفين، حاملين الدلاء لإخماد الحريق، تولول زوجة خالي، تصيح أمي، أما أنا عجّلت رجلاي بالهروب، كأنني "عروة ابن الورد" من صعاليك العرب، قبولي الآن في بيت خالي بات مستحيلا، بل مرفوضا، تتوسل إليّ ابنته : 

- أرجوكِ عودي ... إلى أين أنتِ متوجهة ؟

- دعيني ... 

ها هي تمسك بكمّي : 

- عودي ... عودي ... عودي ...

- لا ... لا ... 

في الواقع كرهت مضغها للكلام، لا يزال توسلها يتبعني صداه، قائلة : 

- عودي ... إنه خطأ غير مقصود، لكِ أن تستعطفي أمكِ كي لا تعاقبكِ

لم أرضخ لتوسلاتها، وما هو سبب خوفي ؟

أ لأن طيف الكتاكيت الصغار وهي محروقة أمامي، مشوية الجلد، ماثل أمامي ؟

أ هو الحزن المميت أم التمردّ القاتل ؟

ماذا لو نفضت النيران عنهم مخلصة لهم من التعذيب القويّ ؟

- يقول خالي : حمدا لله على نجاة البيت والأبقار.

وأنا أرمقه ينظر إلي من بعيد، مستنكرا فعلتي الشنعاء، ألتفت إليه بندم وارف، أشي بحجم تعاستي، أبلع كلمات استجداءاتي.

- ترى ماذا سيفعل الآن ؟

كأن القرية برمتها تدور حولي ... آه ... آه ... جسدي منهك، متلاشي من التعب، أنفاسي متسارعة من الجري، مخيلتي تحتضن صور الدجاجة وصغارها، تشويهم النيران المتلظية.

جميع التوسلات التي قذفت بها ابنة خالي جعلتها ورائي، انطلقت أعدو كمهرة السماء، رافضة، غير خانعة، لا مستسلمة، متأكدة أنهم سيقولون مجنونة، كلمة تكفيني لكل تهوراتي.

وأنا أفارق جمعي، بدأت تعاستي تقترب مني شيئا فشيئا، وإن صرت وسط الملتحدات الخضراء، جلست تحت صفصافة وارفة الظلال، مخضرة الأغصان، أنظر إلى نفسي بين كل تلك الأحداث المتعاقبة التي أفرزت هرمون كآبتي، اغرورقت عيناي دمعا.

- ماذا بعد أن حرقت الدجاجة والتبن ؟

- ما الذي سيحدث بعد ذلك ؟ .

هل سأتلقى السب والشتم من أمي والسياط من أبي ؟

- لا ... لا ... لن أقبل الذل والمهانة

- لا ... لا ... لن أحنِ هامتي لأحد ما توالى الليل والنهار ...

استفقت على خشخشة بين الأعشاب، بعد أن افترشت طيلساني الذي كان يلف عنقي، يداي تحملان ثمار التوت البري، أتلذذ بنكهاتها، مذاقها الجلوكوزي الحلو يستهويني.

شيء ما يتسلل خفية، أراه بأم عيني، مندسا بين حجر من أكسيد الكالسيوم.

يا رازق الأنام ! ها هو يتعرس في مشيته، بالرغم من أنني وسط بساتين ذات بهجة، صار الاهتزاز مصاحبي، الرعب والندم يطوفان بي، يطوقان هدوئي.

- ترى لماذا قدِمت هنا لوحدي ؟

جسم يزحف اتجاهي ... جلده منمنم بالأصفر والأسود، صار وجهي حزينا خائفا، دموع أخرى زادت من أحزاني، التي انتشرت كوباء معد في مناحي وجداني.

لا أحد هنا، إلا أنا، تبا لهذا اليوم البئيس ! بناره الملتهبة وأفاعيه السامة، ها هي توسلاتي لخالقي تتهاطل كتأوهاتي.

- من الذي سينقذني من هذا الثعبان الضخم الذي بدأ يصيئ ؟

تسمرت في مكاني، هي تعاليم أبي، كان يحثنا وينصحنا إن صادفتنا أفعى، لا نتحرك من مكاننا، نتخشب، نتصلب، حتى تنصرف، كذلك فعلت.

لا زلت جامدة، كقطعة ثلج في غياب الحرارة، كتمت أنفاسي، جالسة على التراب، بدني مقشعر، صعقتني المخاوف المضافة كتيار كهربائي، حمدا لله على سلامتي ... ها هو يمر كسحابة صيف سريعة الزوال.

فجأة انتصبت واقفة، أدرت ظهري لكل الأشجار، دون أن ألتفت إلى الوراء، تنفست الصعداء، مسحت يدي وملابسي من التراب، سروالي الوردي من النيلون تبقع، لم أقوَ على التلفظ بأدنى كلمة.

ترى لمن سأقول أنني تذمرت خوفا وأنا الشجاعة التي لا تهاب شيئا ؟ 

ها أنذا أهركل بمشيتي الغيداء، المقبرة تلوح لي من بعيد، فرصة سانحة لأدعو لجدي و"حنا" ولكل الموتى بالرحمة والمغفرة، سرحت أفكر في خالي وأمي، العجين الذي احترق مع ريش وجلد الكتاكيت وأمهم.

لا شهية لي بعد فعلتي، يا لحماقتي ! هل سيقدمون لي كل  طبخوه اليوم إن حضرت ؟

تراءى لي زوج خالتي من بعيد يحمل كيسا مملوءا بأكواز الذرة، تقف خالتي أمام الباب، ابنها يتلصص عليّ خلفه، الدهشة بادية على الوجوه لرؤيتي، قبلت يد خالتي التي صارت تلطف من غضبها، عيناي تحمدان سلامتي، اخترقت مدخل البوابة، ما إن تجاوزتها حتى صرخت أمي بصوت غريب عني، كالذي يصاحب الميت عند الدفن، بقيت جامدة في مكاني.

- أ حسبتني كنت في عداد الموتى ؟

أتقدم بخطوات إلى الأمام، غصن الصفصافة بيدي، هششت به كلاب القرية الضخمة، كأنني جندية عائدة من الوغى منكسرة، التمزق يملأ غلاف قلبي، الأصوات ترتفع في دواخلي، صرت على دراية تامة بكل المصائب التي لحقتني، إحساسي بالذنب صار أقوى من العقاب القاسي.

آه ... ! لو كانت "حنّا الشعيبية" على قيد الحياة لأنقذتني من كل توبيخ سيلحق بي، عودتي مع نداماتي واضحة، عصافير بطني مزقزقة، قلبي في ارتعاد، جزُوعة منُوعة للابتسامات.

خالتي تلون المشهد المأساوي دعوتها لي مشاركتي لها في الأشغال، فرحت شيئا ما، جلست قرب الموقد الخشبي، وهي تنقي الخضار بيديها الناعمتين، أمرتني بتهييء صينية الشاي، هي عادة أهل القرية قبل العشاء، كل الضجيج واللغط استحال هدوءا، عيونهم ظلت تخترقني وأنا أحمل الصينية، شيء ما لمس ساقيّ، صرخت صرخة مدوية في الأعالي.

- النجدة ... النجدة ... أغيثوني ... أنقذوني ... الخطر تسلل إلّي ... أمي ... أمي ... ثعبان ... ثعبان ... ثعبان ...

تحلّقوا حولي، أحاطت أمي جسدي بذراعيها، غاص وجهها في رأسي قائلة : 

- حماكِ الرّحمَن يا بنيتي.

يداها ممدودتان نحو الأسفل، وضعتها على صدري، أوصالي ترتجف، وهي تضع قبلاتها على وجنتيّ.

يا حمقاء ! 

ليس ثعبانا، إنه رسن هرم، جعلني أتذكر المثل القائل : "من لذغته الحية حذر الرسن".

لا الحية لذغتني ... لا أمي عاقبتني ... إنه رسن هرم أفزعني، أمام ضمير ذاكرتي أشهد على كل هزائمي، ووهم الثعبان الذي ما يزال يتربص بي حتى الآن.........لكن الشوق إليك سيظل آفتي.......آفتي.....


مقطع من أقصوصة"رقصات تهور فوق منصة الذاكرة"

من الأضمومة القصصية "التراب وسراديب العذاب".

عشرون أقصوصة مشوقة.ومؤثرة.بتصميم لغوي فريد.عدد الضفحات"340ص"..

سمية قرفادي/روائية /قاصة/شاعرة.

Hiamemaloha

About Hiamemaloha -

هنا تكتب وصفك

Subscribe to this Blog via Email :