---
رسالةٌ متأخِّرةٌ
زوجتي الرّاحلةُ...
من قاعِ الأرضِ
إلى ملكوتِ السّماءِ،
أُرسِلُ لكِ تحايا الصّباحِ
وباقاتِ وردٍ ما زالتْ تبكي.
الغريبُ والملفتُ جدًّا!!
سيّدتي... إنّنا لم نكنْ أصدقاءَ،
ولم نكنْ أعداءَ،
فماذا كنّا؟
كنّا ظلًّا مهتزًّا تحتَ شمسٍ حائرةٍ،
أو ربّما كنّا محاولةً فاشلةً
جمعتها يدُ القدرِ،
ثمّ نفضتْها الرّيحُ!
أخجلُ الآن
أن نتصارحَ هكذا،
وأن ننشرَ غسيلَنا القديمَ أمامَ أهلِ الأرضِ
وأصدقائِكِ الجددِ!
وأن تكونَ أوجاعُنا حديثَ أهلِ المدينةِ
وحاناتِ السّماءِ!
نوباتُ غضبِكِ أفسدتْ حياتَنا،
وغيرتُكِ سكنَتْ بيننا شكًّا مدمّرًا،
كنتِ تشعرينني دومًا
بأنّي مغرورٌ، متعالٍ،
طفلٌ مدلَّلٌ أرهقتهُ الحروبُ،
وأنّني لا أنفعُ لشيءٍ
سوى التسكّعِ مع الحروفِ،
ومواعدةِ قصائدَ لن تأتي!
هدايانا...
كانتْ تمائمَ لبقاءٍ خافتٍ،
وأزهارًا
تُرمى فوقَ قبورِ الأيامِ الباردةِ.
أحقًّا تُحيي الأزهارُ الموتى؟!
وماذا أفعلُ الآن؟
وطرفُ الحديثِ غائبٌ...
مَن هو؟
أنتِ.
كنتِ في البيتِ
صوتًا مكتومًا،
وضجيجًا خفيًّا،
وبكاءً ضاحكًا،
طفلةً لا تعرفُ متى تصرخُ!
كنتِ في قلبي
حاضرةً وغائبةً،
وحيدةً، ممتلئةً بالضجيجِ،
باكيةً لاعنةً،
كنتِ مدينةً بثوبٍ عشوائيٍّ،
الكلُّ يصرخُ،
الكلُّ يبكي،
الكلُّ يضحكُ.
طرُقُ قلبكِ
مغلقةٌ ومفتوحةٌ في آنٍ واحدٍ.
(تفتحينَ أبوابَ القلبِ
وتُغلقينها في اللحظةِ ذاتها!)
غيابُكِ الآن
أهداني نعمةَ الكلامِ دونَ خوفٍ،
دونَ أن تتطايرَ أكوابُ الغضبِ،
أو يتسلّلَ الذّعرُ إلى عيونِ قطّتنا الصّغيرةِ.
للحقيقةِ...
لم أفهمْ يومًا
لماذا كنتِ تكرَهينَ العطورَ،
ولماذا تطفئينَ المصابيحَ قبلَ الأوانِ،
ولا لماذا كنتِ تخشينَ البشرَ،
وتهربينَ من دعواتِ المطاعمِ والأصدقاءِ،
وتشنّينَ الحروبَ على الكُتّابِ!
كنتِ أميّةَ المشاعرِ،
بلا لغةٍ
ولا ترجماتٍ!
أميّةً مفجعةً وقاتلةً!
كنتِ غريبةً حتّى عن جسدكِ؛
لا تعرفينَ أنّ القبلةَ صلاةٌ،
وأنّ العناقَ نشيدٌ
يتهادى بين الحقولِ،
وأنّ رائحةَ الجسدِ
دليلٌ في الظّلامِ!
(أتصوّرُ أنّ غيابكِ
أعطاني فرصةً للتحدّثِ إليكِ،
فرصةً لم أملكْها طيلةَ حياتكِ!)
أليسَ ذلك غريبًا ومبهمًا؟
نتحدّثُ عن قربٍ
دونَ أن نشعرَ بالسنواتِ الضوئيّةِ للبعدِ!؟
فرصةٌ جيّدةٌ،
وربّما تتكرّرُ
في ظلِّ غيابِ قواعدِ الاشتباكِ.
جميلةٌ جدًّا هذه الهدنةُ الطويلةُ!
وأيضًا، غيابكِ عن هذا العالمِ
أعطانا فسحةً للحوارِ الهادئِ.
ليسَ بيدي أكثرُ من هذا...
وماذا كنتُ سأفعلُ لكِ ولي؟
حياةً أخرى،
أراها أنا فقط:
أنتِ طفلةٌ صغيرةٌ،
بضفائرَ ملوّنةٍ،
وأنا صبيٌّ يخجلُ
كلّما لامستِ يدُهُ يدَكِ.
طفولةٌ مترفةٌ...
أقيمُها فوقَ أنقاضِ سنواتٍ عجافٍ!
شكرًا لأنّكِ أخيرًا
استمعتِ إليَّ.
وشكرًا لهذا الصّمتِ،
الذي منحني نجاةً مؤقّتةً.
حميد العادلي
العراق