إضاءات نقدية للناقد الأستاذ جمال عتو
نلتقي مجددا اليوم في فقرة إضاءات نقدية بمنتدى نبض القلم للشعر والأدب متناولين نصا قصصيا قصيرا موسوما ب
" الغربة " للكاتب المقيم بفرنسا : ابراهيم عبد الكريم " .
******************** ***********************
قصة بعنوان: الغربة
كان الليل قد أسدل ستاره حينما رن جرس الهاتف مرات عديدة دون توقف، توجه أحمد نحو الهاتف ولسان حاله يردد بصوت خافت " الله اسمعنا سماع الخير"، نظر إلى الساعة فوجدها قد تجاوزت العاشرة من بعد منتصف النهار. جرس الهاتف في مثل هذا التوقيت يرتعش له الجسد و تتضاعف نبضات القلب خوفا من الخبر القادم " لاشك أنه خبر مخيف قادم من الوطن" هذا ما فكر فيه أحمد قبل أن يمسك بجهاز الهاتف، لكنه احس بثقل أنامله ليتردد في الرد على المكالمة.
توقف هنيهة ليتنهد تنهيدة عميقة قبل أن ينطق بقوله "السلام عليكم، اهلا وسهلا"، في البداية كان صوت مخاطبته متلعثما، يكاد لا يفهم منه أي شيء، بعد ذلك أدرك أنها أخته التي بدا عليها الارتباك في الإفصاح عن ما تريد اخباره به، حدثته عن أمه التي تشكو من مرض السكري وضغط الدم، خاطبته بقولها:
" امي طريحة الفراش" وبنبرة الحائرة الخائفة عن صحة أمها، أضافت، : " لاشيء يبشر بالخير" في الختام تغيرت رنة صوتها لتقول له بكل صراحة" لابد من حضورك لرؤيتها قبل فوات الأوان ."، رددت كلامها هذا مرات عديدة، الشيء الذي ترسخ بذهن أحمد دون نسيان،.
بعد هذه المكالمة، ارتجف جسده من اعلى راسه إلى أخمص قدميه، اندلف داخل غرفته دون أن ينبس ببنت شفة، واسترخى على فراشه لعله ينام لبعض الدقائق لا سيما وان يومه في العمل مر في ظروف قاسية بسبب الإرهاق والتعب نتيجة حرارة الشمس المرتفعة من جهة وصعوبة العمل في أوراش البناء من جهة اخرى، ظن أنه سيتوصل الى فكرة حول سفره لرؤية أمه بزوال الليل، " الليل يجلب النصيحة" لكن صورة أمه حطت بثقلها على ساحة تفكيره، اكتسحت خواطره، فلم يغمض له جفن طوال الليل إلى أن حل الفجر. قضى ليله بين الرغبة الملحة والواجبة في رؤية أمه واحتضانها للتخفيف عنها من المرض ومؤازرتها، و بين الخوف في ترك زوجته وابنائه لوحدهم في عالم يتطلب منه مرافقتهم إلى المدرسة في الصباح وبعد منتصف النهار، هذا علاوة على فيروس كورونا الذي ادى إلى غلق الحدود والإجراءات القاسية للسفر إلى الوطن.
تربط احمد بأمه فاطمة علاقة فريدة، لم يعرف وجودا لغيرها في حياته منذ أن غاب والده عن البيت وهو لم يتجاوز سن الرابعة من عمره حين خرج أبوه يوما في الصباح الباكر ولم يعد إلى المنزل ليصلهم الخبر فيما بعد عن موته في غرق القارب المطاطي الذي كان يحمله وعدد من المهاجرين السريين إلى الضفة الجنوبية من أوروبا، ترك فاطمة وحدها تتحمل مسؤولية عيش ابنائها، عانت من الحرمان وقسوة الحياة اليومية. كانت تعمل جارية، تتنقل من دار إلى دار كما كانت تقضي جل لياليها في تحضير أدوات تقليدية من الحلفاء وبيعها لتوفير الموارد المالية الضرورية لسد حاجيات الرمق اليومي، ها هي الآن وقد تجاوزت سن السبعين من عمرها، تعيش وحيدة بمنزل العائلة، كبر الأبناء وغادروا وكر العائلة، .
أصبح الشغل الشاغل لأحمد يكمن في كيفية السفر في أقرب وقت ممكن لرؤية أمه. في الصباح الباكر من نهار الغد توجه إلى باريس ليلتحق بمطار شارل ديغول. لحسن الحظ حصل على مقعد في الطائرة الوحيدة التي كانت مبرمجة للتوجه نحو مطار وجدة. بعد ساعتين ونصف من السفر، قضاها في صمت وافتراضات أرهقت ذهنه حول الحالة الصحية لأمه. كبح دموعه من التساقط طوال السفر، بعد ذلك وجد نفسه يبحث عن سيارة أجرة توصله إلى بلدته في جو قارس نتيجة عاصفة قارية أصابت المنطقة، كان يوما غائما وممطرا، وكأنه شعر بما كان يخامر نفس أحمد، اخيرا وصل إلى البيت حوالي الساعة الخامسة من بعد منتصف النهار، استقبل بحرارة من طرف الحاضرين، من الاخوة والأخوات وابنائهم، الكل يبتسم لرؤيته، لكن الهاجس الأول الذي كان يشغل باله هي الحالة الصحية لأمه. بعد تحية الجميع اندلف داخل غرفة أمه على أمل أن تفرح به وتستقبله بابتسامتها الجميلة الحنونة كعادتها كلما عاد لأرض الوطن في العطلة الصيفية، لكن لاشيء من كل هذا حصل، تقدم بخطى وئيدة نحوها، فجلس على جانب من فراشها وكله أمل في الفوز بنظرتها العطوفة، إلا أنها لم تحرك ساكنا، لم تتجاوب مع حضوره، ليعتصر قلبه من شدة الألم، ظلت تراقبه بعينيها العريضتين الحائرتين، فجاة نطقت بصوت متهدج وهي تشير الى ابنتها بنبرة استفسار قائلة: "من يكون هذا الرجل الغريب الذي دخل إلى غرفتي" أضافت بصوت لا يكاد يسمع من الحاضرين ترحيبا بمن اعتبرته ضيفا بمنزلها، قائلة" قدموا الحلويات والشاي لضيفنا"، أحدثت كلمة الضيف صدمة، انطلقت كرصاصة من بندقية لتصيب قلب أحمد ليجهش بالبكاء، لم يستطع التملك في نفسه، هرع نحو الخارج ليترك العنان للدموع تتهاطل على جفنيه. كره الغربة التي ابعدته عن أمه وعن آلامها. في الٲخير أخبروه أنها أصيبت بمرض الزهايمر.
إبراهيم عبد الكريم _ فرنسا _ .
____________________*********___________________
النص الذي بين أيدينا يشتغل على المفهومين الاجتماعي والنفسي وعلاقتهما بوضعية المهاجر في ظروف قاسية ، فبطل القصة رجل هاجر وطنه نحو أوروبا لتأمين مستقبله ، وهو ابن لشهيد لقمة العيش ، والده ذهب ضحية حادث غرق وهو يهم بالهجرة عبر قارب مطاطي تاركا وراءه زوجة مكلومة وأطفالا صغار ، لم يتجاوز البطل حينها سن الرابعة من عمره ، أراد بعدما اشتد عوده ان يحقق ما عجز عنه أبوه فهاجر هو الآخر .
يتلقى البطل مكالمة هاتفية ليلا لتخبره أخته بوضعية والدته الصحية التي تعاني من مرض السكري وضغط الدم وتطلبه حثيثا ليحل بأرض الوطن ، وذلك ما قام به في اليوم الموالي
الكاتب يستحضر إكراها عانى منه العالم في الآونة الأخيرة ومايزال : وباء كورونا ، وهو الإكراه الذي سيتجاوزه البطل رغم الإجراءات القاسية للسفر إلى الوطن ، في إشارة أن الكاتب زود نصه بعامل واقعي للإثارة ، ففطنة الكاتب تستدعي استحضار المعاش بتفاصيله في النص أحيانا ليجد القارئ نفسه فيه ويستدعي تعاطفا أيضا .
يحل البطل بأرض الوطن ويتجه إلى منزل والدته منتظرا منها استقبالا يليق بأمومتها إلا أن ذلك لم يحصل ، فقد كانت ممدة على فراشها ولم تتعرف عليه ، خاطبت ابنتها في حضرته متسائلة : " من يكون هذا الرجل الغريب الذي دخل إلى غرفتي ؟ " وبعدما اعتبرته ضيفا التمست منها : " قدموا الحلويات والشاي لضيفنا " ، ليخبروه لاحقا أن والدته أصيبت بمرض الزهايمر .
مشاهد النص الدرامية يتلقاها القارئ بتأثر بالغ مشوب بالصدق لأنها مشاهد واقعية مادامت تطرق أبواب الهجرة إلى أوروبا وفراق الأحبة ومرارة الوجد والفقد والاشتياق والعيش على لحظات الانتظار والترقب ، فعنوان النص يختزل كل ذلك : " الغربة " ، فالإنسان غريب في أرض غير أرضه التي شهدت أولى صرخاته وإن بلغ مراده في العيش الكريم ، والغربة غربة الشعور والإحساس والوجدان ، وبطل قصتنا انتقل من غربة أرض إلى غربة أخرى لم تقل ألما ولا غما وذلك عندما اعتبرته والدته ضيفا عابرا .
النص يشتغل على ظاهرة الهجرة السرية او الشرعية نتيجة غياب فرص العيش الكريم في بلداننا العربية ، وانعكاس ذلك على ما هو نفسي واجتماعي للمهاجر .
ثم أن في النص إشارات موغلة في الواقعية والصدق مما يثير فضولنا أن الكاتب نفسه عاش أطوارها عن قرب أو اقترب كثيرا ممن عايشوها .
النص غني بالتفاصيل الصغيرة على مستوى الأحداث والمنعطفات والطفرات والأحاسيس الداخلية والمواقف والذكريات مما يثبت أن الكاتب حاذق في التقاطها جيدا .
عنصر الحوار مطروح في اللحظات الفارقة والتي تنقل النص مفصليا من مشهد إلى آخر في حنكة بالغة .
قصتنا احترمت عناصر القصة القصيرة من بداية ونهاية وشخوص وزمان ومكان وعقدة وانفراج " مؤلم " .
أسلوب القصة جنح إلى السلالسة الموصلة إلى المعنى والمتانة ، ولم يستدعي عنصر التكثيف لاهتمام الكاتب بالتفاصيل كما أوردنا .
ويبقى نص اليوم عميقا مادام اشتغل على مفاهيم الهجرة والفقد والأمومة والوطن والانتظار والمرض والألم .
إلى أن نلتقي في الأسبوع القادم مع نص آخر وقلم آخر نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .
قراءة ممتعة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق