جرحٌ في أمومتي../ قصة قصيرة
ليلى المرّاني
السيّارة مسرعة تبتلع المسافات، وأنا متكوّرة كفأر خائف في زاوية المقعد الخلفي، أسترجع ما مضى، وأترقّب خائفةً ما سيحدث، صوته ما يزال يملأ رأسي.. يؤرقني.. يعذّبني.. يلاحقني ليل نهار.. ليلًا يسرق نومي؛ فأنهار على فراشي باكيةً، هل كنت سأغيّر شيئًا لو استمعت إليه؟
لأوّل مرّة يفتح لي قلبه، جالسًا أمامي في المطبخ وأنا أغسل الصحون، قال فجأةً بتردّد:
— لماذا لا تسأليني من هم أصدقائي؟
لم أكلّف نفسي عناء النظر إليه، فقد كان يومي مترعًا بالضجر والتعب، أجبته بسرعة ونفاد صبر:
— وهل سأعرفهم لو ذكرتهم لي؟
طأطأ رأسه وخرج مسرعًا.. كلمات قليلة أصبحنا نتداولها عند الضرورة، حتى تواجده في البيت أصبح قليلًا، هو لا يزال في السادسة عشر من عمره، وأنا أمّ أرهقتها سنين الغربة ومسؤولية ابنتين مراهقتين تتخاصمان طوال الوقت، وأب لا وجود له إلاّ مخمورًا يشعل البيت نارًا بالصياح والسباب لأتفه الأسباب، حتى أصبحت هشّةً مثل سحابة صيف، أذرف الدموع بصمت وأندب حظّي!
السيارة مسرعةً تلتهم المسافات، وأنا ساهمةً أفكّر كيف سألقاه.. كيف أصبح شكله بعد أن أمضى عدّة شهور في السجن.. بماذا يفكّر.. ماذا سأقول له؟
لم أستطع حضور محاكمته ولا زيارته بعد أن صدر الحكم عليه، فقد أصبت بانهيار تام فقدت على إثره النطق والحركة، وكان أول ما نطقت به بعد شهور، " أنا السبب.. أنا السبب "، وأصبح الأرق رفيقي كلّ ليلة.
أستمطر ذاكرتي من جديد.. يطالعني وجهه من خلال نافذة السيارة مفعمًا بالألم والضياع حين اقتاده شرطيان من البيت، أذكر أنني سقطت أرضًا وأنا أسمعه يردّد:
— ماما لا تخافي.. سأعود سريعًا.
ولم يعُد..
حزن وصمت ولوعة عميقة كالزلزال أو الموت تسري في عروقي، ورغبة جامحة أن أفتح باب السيارة وألقي بنفسي في الطريق، ولكن دموع الحنين والشوق لرؤياه ملأت عينيّ وتساقطت مطرًا غزيرًا.. أموت شوقًا ولهفةً لرؤيته، ذلك الإبن المراهق الصغير الذي تعلّق بي لدرجة أصبحت تضايقني، فأقول له، " لماذا لا تصاحب صديقًا وتخرج معه؟ "
وصاحب أصدقاء كثر، لم أعرف عنهم شيئًا.. ابتعد كثيرًا، إلى ذلك اليوم الذي قال لي، " لمادا لا تسأليني من هم أصدقائي؟ "
كان يطلب مساعدتي، ولكنني وبكل غباء وقسوة لم أعره اهتمامًا.
حين وصلت السجن، اقتادوني إلى غرفة صغيرة فيها كرسيان ومنضدة، بعد التفتيش وبعد أن أخذوا حقيبة الملابس الصغيرة التي جلبتها له وبعض الطعام الذي يحبه.. كنت ارتجف، جفّ ريقي، حاولت دون جدوى أن أسيطر على ارتجاف يديّ.. أمطارًا انسكبت دموعي حين رأيته قادمًا نحوي، احتضنني بقوّة أشعرتني أنه لم يعد ذلك الصبي الصغير الذي كان ملتصقًا بي كجلدي..
— أنا آسف يا امي، سبّبت لك الكثير من الألم.
اختنقت، حاولت أن أخرج تلك الغصّة التي تكسّرت في صدري، ولكن لم أجد ما اقوله سوى،
" انا السبب حبيبي.. أنا السبب.. "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق