قصة بعنوان:
"رزة القاضي"
هل خطر ببالك يوما أن تأكل "رزة القاضي" أو كما تسمى كذلك "لقمة القاضي" بدل هذا الفول الذي تزخه الى بطنك مع سيل هذا الكحول الخبيث؟
سأل سعيد، صديقه حميد، هذا السؤال، لما التقيا في هذه الليلة المظلمة الباردة. ليلة افترشا فيها الارض وتغطيا فيها بالسماء وهما منشغلان بأكل فول وشرب كحول يدفئان بهما برودة بطنيهما الفارغين.
بدندنة رأس دائخ، استحوذ عليه مفعول الكحول أو الماحيا، أجاب حميد وهو يضحك محاولا رفع رأسه الذي ثقل عليه وزنه من شدة مفعول ما شرب:
- ما أعرفها وما رأيتها يوما فكيف لي أن آكلها؟ ولكن كم أشتهي أن أمزقها ببقايا أسناني السوداء هاته التي أنهكتها كثرة شرب الكحول، ولا لشيء إلا لأن اسمها مقترن باسم القاضي. كم أكره هذا الاسم وكم أريد أن آخذ بثأري من ذاك الرجل الذي أخرجني من مسكني. ذاك القاضي، الذي حكم علي بالإفراغ ظلما وأخرجني من بيت تركني فيه أبي بعد موته. ذاك الرجل الذي حكم بالبيت لأخي الكبير فقط، لأنه كان غنيا وكنت فقيرا. أخي من أمي وأبي والذي، بعد أن زور و سرق واصبح ذو صيت ضيعني من كل الإرث، وحتى البيت الذي تركني فيه أبي طمع فيه وأخرجني منه واستعمله كمستودع لآليات صناعته.. بداخلي غضب يشتهي الثأر ممن اعتدوا علي، لكن لا استطع الانتقام المباشر، فكم آمل أن أجد طريقا تفرغني من هذا الأسى الذي ينخرني من شدة ما وقع لي، فدلني يا صديقي على "رزة القاضي" هذه أفترسها. دلني عليها، فلن اتساهل معها. سأفترسها كما يفترس الأسد فريسته. افترسها ثأرا لظلمي واليوم اشباعا لجوعي. أتعرف يا صدقي أن بعد موت أبي، ما وجدت أكلا اكثر من خبز وشاي، وهذا إن عثرت عليهما.. قل لي هل كان يوما من نصيبك أنت أكل "رزة قاض"؟ ضحك سعيد ثم أجابه:
- نعم، عدة مرات... كم أكلت من رزز للقضاة. وكم شاهدت من أكباش سردية، مهيأ ومحشوة بمختلف أنواع التوابل تهدى لقضاة.. وكم رأيتها وهي تجمر فوق النار. تدور حتى تحمر.. أكلت من لحمها الكثير في بعض الأحيان وحتى شبعت...
- كيف ذلك؟ أجاب سعيد:
- سأريك كيف ذلك. فتهيأ ولا تأكل خبزا حافيا لتأكل معي "رزة القاضي" وحتى اللحم المشوي إن شاء الله. غدا أنت ضيفي. موعدنا مساء بالمدينة عند فيلا السيد المحترم الذي تعرفه...
- أنا متهيئ من الآن إن أردتني. أجابه سعيد:
لا يمكن لنا ذلك. فهذا يحدث فقط مرة في الأسبوع. ليلة السبت حتى صباح الأحد. في تلك الليلة الليلى تضاء الشموع و تصخب الموسيقى، وتتخم البطون، و تنشد الرؤوس وتغني، وتتراقص الأبدان، و تحتك النساء بالرجال.. في تلك الليلة فقط، تتاح لي الفرصة لانتشال ما يمكن انتشاله من الطعام و الاستمتاع بما لذ وطاب منه...
التقيا عند الفيلا المذكورة وجلسا ينظران لحياة بدخ تعاش في مدينة تبكي من الاستبداد والاهمال.. بقرب حائط البستان حيت يريا ضيوف الفيلا وهم لا يرونهم, جلسا يتابعان الحفل.. يتجسسان على ما يقع وما يهيأ: أكباش تشوى، وفواكه تعد، وحلويات تهيأ، ونساء بأبهى الملابس واثمن الحلي ترقصن، ورجال يعلقون لهن على صدورهن وبشعرهن أوراقا نقدية من مختلف الفئات..
جيء بالطعام ووضع على طاولات كبيرة أعدت لذلك، وجلس المدعوون حولها. بدأ الأكل بشراهة، بل قل بدأ الافتراس. حمى الوطيس، وتبعثرت لحوم الاكباش، وتكسرت كؤوس الخمور.. تلاعب الكحول بالعقول فانهارت شخصيات كانت تدعي السلطة و القوة وانقلبت في لحظة الى مخلوقات تترنح كحشرات رشت بمبيد.. منهم من بال ومنهم من تغوط ومنهم من نام.. تخطاهم الخادم، وهو يلعن المضيف والضيوف. ثم خرج من الفيلا وبيده كيس يبدو ثقيل المحتوى.. أسرع سعيد جهته. خطف منه الكيس ورجع عند حميد.. فتحه.. و بدأ يخرج منه قطعا مختلفة من انواع المأكولات.. يخرجها وينهش منها ما استطاع ويمد الباقي لصديقه:
- هذا لحم، وهذه بسطيلة، وهذه بايلا، وهذه بيدزا، وهذه مروزية وهذا... و... و... كان صديقه يأكل ويتلذذ ومع كل لقمة يطرح عليه سؤاله:
- وأين هي "رزة القاضي"؟ يسأل و يلتهم قبل سماع الجواب من صديقه العارف بكل أنواع الطعام. أنواع لا وجود لها طبعا في معجم حميد. ثم يجيبه:
- انتظر ولا تتسرع. سأجد لك "رزة القاضي" فهي حسب تجربتي تكون دائما بقاع الكيس. "رزة القاضي"، التي تسمى أيضا "لقمة القاضي"، لها طقوس خاصة، فهي لا تلتهم كما تريد أن تفعل بها أنت. "لقمة القاضي" تتذوق. "لقمة القاضي" تتلذذ. "لقمة القاضي" تؤكل بترفق.. رد عليه حميد، وعلى دقنه زيوت شحم اللحم المشوي، تسيل من جوانب فمه:
- على مهلك. هناك شيء لا يتوافق وما قلته. مادام القاضي يحكم بتعسف فرزته يجب أن تؤكل بعنف. رد عليه:
- لقمة القاضي، تؤكل بتلذذ. ألا ترى أنه في جلساته، لا يتسرع في حكمه؟ ألا ترى أنه يتماطل وكأنه يتلذذ بالحكم الذي سيصدره بكلمة يتلذذها قبل اخراجها من بين شفتيه، وخصوصا إذا كان المتهم فقير مثلك.. فهكذا هي تؤكل رزته؟ أجاب حميد:
- يتلذذ ويتماطل نعم، ولكن ما رأيته إلا تسرع في اصدار الحكم كلما كان لصالح غني. يصدره ويغلق الملف وكأنه يخشى أن يتقدم أحد بحجة تبطل الحكم.. يجيبه سعيد:
- تلذذ وانس هذا، وافتكر أن جوعك سببه بطانة هؤلاء. وافتكر ان ما ينقصك من خيرات فهو ما يستهلك هنا وما يرمى ببقاياه في صناديق القمامات...
كان حميد يأكل من هذه البقايا اللذيذة وكلما تلقى نوعا منها سأل صديقه :
- هل هذه هي "رزة القاضي"؟ هل هذه هي رزة القاضي؟ اسرع، اخرجها لي انتقم منها.. وهو هكذا الى أن أخرج له هذا سعيد قطعة حلوى من خيوط منسوجة، فأراه إياها وقال له:
- هذه هي "رزة القاضي". أكلة شهية كانت شعبية ثم رفضت أن تبقى كذلك لما وقعت أزمة الهويات، فانتفضت وأصبحت في خلية الأغنياء. وسميت بذلك لأنها تشبه الرزة أو العمامة التي يضعها القاضي فوق رأسه... أجابه حميد حينها:
- ناولني إياها انتقم منها. ناولني إياها ألقي بها في صندوق القمامة، فهناك مآلها وليس بطني فهو انقى منها.. ناولني اياها، لم تعد لي غاية في أكلها. ناولني إياها أرميها في خاوية القمامة...
رمى حميد برزة القاضي في الحاوية وأخد يطوف بها وهو يردد كلاما مقطعا يفهم منه أنه يدعو على من ظلموه...
من شرفته، كان صاحب الفيلا ينظر للمشهد و يتحدث في هاتفه... مر وقت قصير ثم داهمت سيارة مخزنية سعيد وحميد وأخذتهما الى حيث لا يدري أحد.. سارت بهما وهما ينظران من نافدتها المصفحة الى جماعة من القطط والكلاب تتعارك من يقفز الأول داخل الحاوية ليلتهم "رزة القاضي" التي تخلص منها حميد تنكيلا بمستبد ظلمه...
أحمد علي صدقي/المغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق