(ملِكة/ربيع دهام)
يا ملكة جلستْ على عرشِ آلة الخياطة،
وحرّكت بقدمها اليمنى ذاك المربّع الحديدي،
كي ترتّق لي، بالخيط والإبرة، فتق بنطالي، كيف لي أن أعرف،
كيف لي أن أدري، وأنا ذاك الطفل الصغير، أنها
كانت ترتّق روحي، لا ثيابي.
وكم خفتُ عليها من سنان الإبرة المتحرّكة،
وركضتُ لأناولها حامي الإصبع النحاسي الصغير،
وقلتُ لها، بجزع الأطفال:
"احترسي... احترسي من الإبرةِ يا أمي".
وشرعتُ في مراقبة الوحش اللعين مخافة أن ينقضّ
على سبابتها فيجرحها.
كنتُ أخاف على إصبعها من وخزِ الإبرة.
وصرتُ أخاف عليها من عقارب الساعة، ومخالب الأيام.
كنتُ أفرح بثوبٍ تطرّزه لي. بثوبٍ يدفئني في ليالي الصقيع.
وصرت أعرف لمّا كبرتُ أن لا ثوب يدفئني أكثر من حنانِها.
وكنتُ أركضُ للخارج مفتخراً لأتلو على أصحابي الخبر:
"انظروا. انظروا كيف أصلحتْ لي أمّي قميصي"،
واليوم...اليوم أودّ لو رميتُ ثيابي، كل ثيابي،
في براميل المهملات، إذا ما كان ذلك سيعيدها
ثانيةً إلي.
باردٌ.... باردٌ هذا العالم يا أمي.
باردٌ.
لكنه جميل. حقاً جميل.
أتعرفين لماذا؟
لأن آثار قدميك ما زالتْ هنا.
تغرّد في صباحات أيامنا وتزقزق.
ولأن بصمات أصابعك ما تركت أبداً أحشاء البيت.
أراها على الجدران. على الطاولات.
على الطرقات حيث كنتِ تمشين.
على أطباق الصحون وخزائن المطبخ.
على سريري، حين أمرض،
فتتحسّسين جبيني، وتصلّين.
وتضحكين كي تُطَمئنيني، وفي داخلك تبكين.
وعلى الصخور لمّا كنتِ في البريّة تجلسين.
وفي السهرات لمّا يأخذك الفرحُ من يدك لكي معه
ترقصين.
وأكثر... أكثر من كل هذا، بصماتك في قلوب كل من ترعرعوا
وتربّوا على مهدِ يديك.
يداك!
يداك التي تحدّت وحش الإبرة ومصاعب الأيام،
حتى تحيك في قلوبنا، أجمل الأحلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق