الأحد، 14 ديسمبر 2025

Hiamemaloha

في رحاب الوعي للدكتور محمد شعوفي

 ✒️ في رحاب الوعي:

{اعترافات روح تعبر نحو فضاء الحب}. 


ليس هذا النص محاولة لشرح الحب، ولا لتأطيره في تعريفات جاهزة؛  

بل هو سعيٌ لكتابة ما لا يُكتب، وللإمساك باللحظة التي يتحول فيها الشعور إلى وعي،  

والدهشة إلى معرفة، والإنسان إلى مرآة يرى فيها ذاته من جديد.  

إنها اعترافات روحٍ وجدت نفسها تعبر نحو فضاء لم تكن تعرف أنه يسكنها.


أكتبُ هذه الكلمات كمن يعبر جسرًا بين عالمين؛  

عالمٍ كنتُ أحسبه مستقرًا في حدود معرفتي،  

وعالمٍ كشفه لي الحب فجأة، فأعاد ترتيب خرائطي الوجودية من جديد.  

لم تعد التجربة مجرد شعور عابر أو انفعال يضرب سكون القلب،  

بل أصبحت مساحة تأمل كبرى، تتداخل فيها الأسئلة باليقين،  

والدهشة بالطمأنينة، والخوف بالتحرر.  

أكتب بضميرٍ يفيض نورًا، كمن يشهد ولادة وعي جديد  

من بين ظلال ذاتٍ كانت تظن أنها تعرف نفسها،  

فإذا بها في محراب الحب ترى حقيقتها لأول مرة.


أكتب من أعماق صمتٍ يصرخ بالأسئلة،  

من فضاءٍ داخليٍ تتلاطم فيه طبقات الوعي  

كما تتلاطم أمواج الوجود على صخور المعنى.  

هناك، عند الحدّ الفاصل بين ما كنتُه وما يمكن أن أكونه،  

يبدأ الحب في الظهور كوميضٍ أوليّ لا أعرف مصدره،  

لكنني أعرف أنه ليس حدثًا عابرًا؛  

بل بابٌ يُفتح على ما وراء الذات.


كنت أظن أن الحب حالة إنسانية كباقي الحالات،  

حتى أدركت أنه ليس مجرد عاطفة،  

بل هو السر الذي يعبر من خلاله المعنى إلى هذا العالم.  

إنه طاقة كونية تتسلل إلى الروح لتقول لها  

إن الوجود أوسع بكثير مما نراه،  

وإن الإنسان، مهما بدا مكتفيًا بنفسه،  

يظلّ في حاجةٍ إلى ذلك الضوء الذي يوقظ فيه حقيقة ذاته.


كثيرًا ما شعرت أن الحب يشبه فجرًا يولد من رحم العدم؛  

يضيء ما كان مطفأ، ويعيد تشكيل نظرتي للعالم.  

كل شيء أصبح يحمل دلالة تتجاوز مظهره:  

الضحكة البسيطة غدت نشيدًا كونيًا،  

واللمحة العابرة عهدًا لا يُنسى.  

وكأن الوجود كله يعيد صياغة نفسه  

لينسجم مع هذا الاهتزاز الجديد في كياني.


لكن الحب ليس نعمة بلا ثمن؛  

فهو يأتي أحيانًا كنارٍ خفية تشعل القلب،  

لا لتحرقه، بل لتذيب جدران الخوف التي احتميت بها طويلًا.  

يتحول الهمس إلى عاصفة، والعاصفة إلى يقظة؛  

فأعيش التناقض بين الرغبة في الانصهار،  

والخوف القديم من الفقد.  

عندها أدرك هشاشتي، فأصبح أكثر إنسانية،  

وأقرب إلى ذاتي التي لم أعرفها  

إلا حين ارتجف قلبها.


أحيانًا أشعر كأن الحب يصنع مني كائنًا جديدًا،  

يطير في سماء لا حدود لها،  

ثم يسقط في وادي القلق،  

لا ليسجنني، بل ليكشف لي عن خفايا النفس  

التي كنت أخشى مواجهتها.  

أصبح قلبي غشاءً رقيقًا،  

يفرح بلمسة، ويُجرح بنظرة،  

وأتحول إلى مرآة صوفية  

تعكس الآخر وتضيء ما فيه من جمال ونقص.


ومع توالي التحولات، يبدأ النور الداخلي في الاتساع.  

أرى ما وراء المظاهر، وألمس جوهر الإنسان الذي أحبّه،  

بكل ما فيه من كمال ناقص ونقص كامل.  

يتبدل العالم إلى نص مفتوح للتأويل،  

حيث كل كلمة رسالة، وكل صمت رواية.  

هنا يتخلق الوعي الحقيقي:  

وعي يجعلني مسؤولًا عن هذا الشعور،  

لا باعتباره قدرًا يحكم روحي،  

بل كنارٍ مقدسة عليّ أن أتعامل معها بحكمة،  

حتى لا تتحول من دفءٍ إلى حريق.


لقد أيقظني الحب من سبات طويل،  

وأعادني إلى حقيقة كنت أهرب منها:  

أن القوة لا تكمن في ادعاء الصلابة،  

بل في الاعتراف بالضعف،  

وأن الاستقلال الذي ظننته حصنًا،  

لم يكن سوى عزلة مقنّعة.  

أدركت أن الحياة تتغير بإيقاع مختلف  

حين يدخلها من يجعل اللحظة الواحدة  

تمتد كالأبد،  

والغَيبة الواحدة تطول كسفرٍ بلا نهاية.


ومع مرور الأيام، أشعر كأن الحب مهندس كوني  

يعيد بناء قصر الروح بحجارة جديدة.  

أسهر بوعي يقظ، لا لأن النوم يعاندني،  

بل لأن الفكر يفيض بما لم أملك شجاعة التفكير فيه.  

أجوع لا لأن الشهية تهجرني،  

بل لأن الشوق يأكل مما بقي من صبري.  

ومع ذلك، أجد نفسي أقوى،  

لأنني أقترب أكثر من حقيقتي،  

ولأن الحب يعلمني أن أهدم الأسوار  

التي صنعتها وحدتي،  

لأبني جسورًا تليق بروحٍ تسعى إلى النور.


ومع هذا الاتساع، أخشى أحيانًا أن أفقد جزءًا من ذاتي القديمة،  

تلك الذات التي كنت أدافع عنها كأنها جوهري.  

لكنني أتعلم ببطء أن الذوبان لا يعني الفناء،  

وأن التشارك لا يعني التلاشي،  

وأنني في هذا التناقض أكتسب شكلًا جديدًا للوجود،  

شكلًا أعمق وأكثر صدقًا.


أدركت مع الوقت أن الحب ليس انفعالًا نعيشه،  

بل مسؤولية نختارها.  

مسؤولية أن نرى الآخر كما هو،  

لا كما نريده أن يكون؛  

وأن نمنحه مساحة ينمو فيها،  

لا قيدًا يضيق عليه.  

فالحب الذي لا يمنح الحرية يتحول إلى ظلّ،  

والحب الذي لا يفتح أبواب الوعي  

يصبح مجرد تكرار لوجع قديم.


تعلمت أن الحب معرفة قبل أن يكون شعورًا؛  

معرفة بالذات حين تنكشف،  

وبالآخر حين يقترب،  

وبالعالم حين يتسع.  

إنه لحظة نادرة نرى فيها الأشياء بصفائها الأول،  

فنكتشف أن الحقيقة ليست في ما نملكه،  

بل في ما نقدر على مشاركته من نور.


وحين يصل التأمل إلى ذروته،  

أجد بوابة صغيرة تفتح على سؤال كبير:  

هل يمكن أن يكون الحب تحريرًا لا قيدًا؟  

أم أن كل اقتراب يهدد باستنزاف المسافة  

التي تحفظ توازني؟  

أدرك أن الجواب ليس في الحب ذاته،  

بل في وعيي به.  

فعندما أعيش الحب كاختيارٍ يومي،  

كفعل وعيٍ لا كاستسلام،  

يتحول إلى ممارسة روحية  

تحررني من أنانيتي،  

وتفتح لي فضاءً أوسع للوجود.  

عندها يصبح الحب فنًا أعيش به،  

لا سجنًا أذوب فيه.


وهنا أفهم أن الجوهر الحقيقي للحب  

ليس الانصهار، بل الاتساع؛  

ليس الامتلاك، بل الحضور؛  

ليس الذوبان، بل القدرة على التلاقي  

دون أن أفقد ملامحي.  

الحب، حين يكون واعيًا،  

يحررني من ضيق الأنا إلى اتساع "نحن"،  

ومن سجني الداخلي إلى فضاء المشاركة،  

ومن الخوف إلى الثقة.


وهكذا أفهم أن الحب ليس حدثًا يمرّ بنا،  

بل وعيًا يولد فينا.  

هو المرآة التي تكشف هشاشتنا،  

والنور الذي يضيء الطريق نحو حقيقتنا.  

وحين نحب بوعي، نصبح أكثر قدرة  

على رؤية الجمال في تناقضات الحياة،  

وأكثر استعدادًا لعبور الجسر  

الذي يصل بين ما كنّاه وما يمكن أن نكونه.  

فليكن الحب بصيرتنا،  

والوعي رفيق رحلتنا،  

نحو إنسانيتنا التي لا تكتمل إلا بالآخر.


بقلم:  

د. محمد شعوفي

Hiamemaloha

About Hiamemaloha -

هنا تكتب وصفك

Subscribe to this Blog via Email :