قصة وناقد
تقديم الأستاذ جمال عتو
يتجدد اللقاء في برنامج " إضاءات نقدية " بمنتدى نبض القلم للشعر والأدب " متناولين هذا الأسبوع قصة قصيرة موسومة ب " كرامات " للقاص المغربي سليم بوشخاشخ .
يبتدئ الكاتب قصته القصيرة بوصف حالة فتاة بها مس بالغ ، يراودها حلم هو أقرب إلى كابوس مزعج بعد أربعة أيام متوالية على ذات الوضع ، ترى الفتاة من خلاله نفسها في غرفة مظلمة وعند فتح بابها تجد نفسها فوق جسر معلق في الهواء ، وحين تقترب مشيا من نور في نهاية الجسر تلمع قبالتها عينا قط أسود لتتهاوى بعدها من الجسر نحو العدم ، تهرع اليها والدتها متعوذة محوقلة .
تستفيق الفتاة واسمها جميلة بشعر مطلي بالغاسول ورجلين مطليتين بالحناء وقد جفاها النوم وحديث مرأة "' الشيخة زليخة " و فتاة جارتها " خديجة " التي " تريد بها شرا " يشغل بالها جازمة بأن خديجة هي من وراء هذه الحالة التي أصبحت عليها بفعل الحسد الذي نهش لبها منذ أن أدركت أن شابا يدعى ابراهيم يميل إليها دون غيرها .
يسرد الكاتب بعدها أعمالا وحركات هي أشبه بطقوس في ضريح ومحيطه : من غمس جسدها في العين المباركة وانتشار البخور ، و ووقع تمتمات الشيخة زليخة ودفن خصلة شعرها في التراب وتقبيل قبر الولي متوسلة الشفاء ولفها حافية بالشجرة المباركة تحت ايقاعات فرقة عيساوة .
بعد هذه " الطقوس " وبعد جهد بليغ استسلمت لإيقاع الطبول ونغمات المزمار لتتمايل أمام الشيخة زليخة التي عمدت الى سكب دماء شاة مذبوحة على جسمها المترنح وتفقد السيطرة على نفسها موكلة زمام أمرها إلى عالم غير مرئي وتسقط أخيرا مغشيا عليها .
لم تتوقف الشيخة زليخة " عن ترديد تعاويذها التي تطرد الجان من جسد جميلة " .
يختم الكاتب قصته بسرد مشهد جلوس جميلة بجوار عريسها إبراهيم مبتسمة ومنتشية ، متحسسة حرزا مثبتا تحت فستان عرسها وهي تتشفى في صديقتها اللدود " خديجة " .
نص الأديب سليم بوشخاشخ اشتغل على ظاهرة نفسية وجدانية لها ارتدادات اجتماعية عميقة ، فالمس أو الصرع حسب النص ماهو إلا امتداد لعلاقات اجتماعية معقدة يتسيد فيها التربص والغيرة والحسد فتصاب الحالة أمام انتشاء الفاعل وتشق طريقا مليئا بالمعاناة والألم الداخلي والخوف من الآتي باحثة بكل الطرق الممكنة عن الخلاص .
النص يسرد حالة فتاة شابة " جميلة " في مقتبل العمر ، من هول ما أصابها من شر المس صار الحلم يراودها ككابوس مزعج للغاية لكنه انعكاس حقيقي لما تعانيه من ألم دفين في الواقع ، خمسة أيام من نفس الحلم ترى فيه نفسها في غرفة مظلمة لما للظلام والسواد من رمزية الشر والغموض المقلق ، وتجد نفسها بعد خطوات مرتجفة فوق جسر ضيق معلق في الهواء لما للجسر من رمزية فوبيا العلو ، وللهواء من رمزية الاندثار ، يظهر لها قبس من نور مشع آخر الجسر لما للنور من رمزية الخلاص ، لكن تتراءى لها عينا قط أسود تلمعان في عتمة المكان لما للقط الأسود من رمزية التطير في الوعي الاجتماعي الشرقي ، لتتهاوى بعدها من الجسر في إشارة إلى ضياع بعد تربص قاتل .
هذه الإشارات سيعكسها الأديب سليم في الواقع حينما يؤتى بجميلة من غرفتها بشعر مطلي بالغاسول وقدمين مطليتين بالحناء الى ضريح قصد استشفائها من المرض ، وذهنها لم يتوقف عن التفكير في صديقتها خديجة التي تقف وراء إصابتها بهذا الشر لحسد أعمى بصيرتها بعد أن أدركت أن شابا يدعى ابراهيم يود الاقتران بها ، وامرأة تدعى الشيخة زليخة التي امتثلت في النص صاحبة الخلاص ، تمر جميلة بلحظات عصيبة استدعتها طقوس الضريح من غمسها كلية في ماء العين المباركة وتزويدها ببخور ودفن خصلات شعرها في تراب محيط الضريح وتقبيل مرقد الولي الصالح ولف بالشجرة المباركة سبع مرات تحت ايقاع فرقة عيساوة وذبح شاة لسكب دمائها الأولى على جسدها المتمايل المترنح لتسقط مغشيا عليها أخيرا .
فهل سقوط جميلة من الجسر في ذاك الحلم المزعج هو ذات سقوطها على الأرض في حضرة الشيخة زليخة وايقاعات عيساوة ؟ وهل القط الأسود ذو العينين اللامعتين انعكاس لصديقتها اللدود خديجة ذات النظرات الحانقة حين أدركت أن الشاب إبراهيم يميل عاطفيا إلى خديجة دونها ، وهل ذاك القبس من نور التي تراءى لها في آخر الجسر هو ذات الخلاص التي تسعى به على يد الشيخة زليخة.
الجسر المذكور في النص استدعاه الكاتب في الحلم صلة وصل بين غرفة جميلة حيث منبتها والمصير المفتوح على كل الاحتمالات وهو الجسر المتمثل واقعا في محيط الضريح حيث كانت جميلة على موعد مع القلق والغموض والحيرة والترنح .
بعد طقوس عصية على الوصف سردا لولا حذاقة الكاتب وتمكنه من ذلك ، وبعد امتحان عسير للغاية ستجد جميلة نفسها أخيرا بجوار الشاب ابراهيم في زفافهما وقد تمكن منها الحبور والانتشاء وهي تتحسس حرزا مثبتا تحت فستان عرسها وتتشفى في صديقتها الحاضرة " خديجة " صاحبة العمل المشين .
الكاتب سليم بوشخاشخ _ كعادته في الوصف _ نجح في وصف ملامح الحلم الذي راود الفتاة خديجة واستطاع أن يستحضر رموزا وإشارات لم تكن بعيدة عن تمثلات واقعية ، كما وصف طقوس الضريح بدقة متناهية بل دخل ليسبر دواخل الفتاة المريضة الداخلية ، ولا أخفي القول أنه لو كان صاحب هذا النص امرأة لجزمت بأنها مرت واقعيا بهذه التجربة المؤلمة أو أرخت السمع لصديقة كانت عرضة لمثل هكذا المس ، وأحسب هاهنا أن الأديب سليم له دراية عميقة بهذه الطقوس وكذا الحالة ليجعلها طيعة لقلمه سردا وتوصيفا من دون تكثيف الذي طالما تستدعيه القصة القصيرة في مواضيع غاية في الأهمية والخطورة أيضا .
النص عميق مادام اشتغل على ظواهر المس والصرع والحسد والغيرة والسحر وطقوس الضريح والوسائط والمعتقدات .
نجد أسلوب الأديب سليم بوشخاشخ يروم السلاسة في التعبير والانسياب من دون تكلف يقود إلى المعنى المراد ويشد القارئ إلى النهاية .
النص كذلك استجاب لمحاور القصة من بداية ونهاية وشخوص وزمان ومكان وعقدة وانفراج .
ويبقى هذا النص مهما للغاية كما أسلفنا مادام اشتغل على ظواهر معاشة لها ارتدادات اجتماعية بالغة .
نلتقي مع نص آخر في الأسبوع القادم بمشيئة الله .
إلى ذلك الحين دمتم بخير .
___________________"""""""""""""""____________________
كرامات
عاودها نفس الحلم لليوم الخامس على التوالي، غرفة ظلامها حالك، تقودها قدماها إلى الباب المتواجد في جانب الغرفة يحيط بحوافه ضوء خافت، تفتح الباب فإذا بها تجد نفسها فوق جسر ضيق معلق في الهواء، أرضه ألواح خشبية، على جنباته حبال خشنة، ينطلق من البيت متأرجحا فوق العدم، تخطو فوق الجسر تحت ضوء البدر المتلألئ في السماء، تسمع أزيز خطواتها الحذرة فوق الخشبات المهترئة، تتجه نحو قبس من نور مشع آخر الجسر، لما تقترب من نهايته، نبدو لها عينا قط أسود تلمعان في ظلمة المكان، فتتهاوى من الجسر نحو العدم، تُدَوِّي صيحتها في أرجاء البيت وتهرول والدتها إليها، تضع يدها فوق رأسها متعوذة مُحَوْقِلَة...
تحت ضوء المصباح الخافت، ظلت جميلة تنظر إلى جذوع الشجر المستلقية تحت سقف غرفتها، لا تستطيع حك شعرها المطلي بالغاسول تحت غطاء محكم، يداها ورجلاها مطليتان بالحناء وملفوفتان بعناية في خرق من الثوب، جفاها النوم، لم تتوقف عن التفكير فيما قالته الشيخة زليخة، وفي صاحبة العمل التي تريد بها شرا، هي قطعا جارتها خديجة، لا أحد غيرها يجرؤ على فعل مماثل، منذ أن أصبح إبراهيم يتودد إليها، تذكرت يوم كانت ذاهبة وإياها للخياطة، ولاحظت نظرات إبراهيم التي كادت تفترسها، منذ ذلك اليوم وهي تضمر لها الشرَّ والحسدُ ينهش لبها، توقفت عن التفكير في خديجة وغاص تفكيرها فيما ينتظرها في الصباح...
استشعرت برودة مياه العين المباركة التي غمرت فيها جسدها البض، أحست بالبخور الذي تنشره الشيخة زليخة يستشري في كامل جسدها، وبوقع غريب لتمتمات الشيخة على فؤادها المهزوز...
على باب الضريح، تركت الشيخة تدفن خصلة شعرها التي قصتها وبَلْغَتَها في التراب، ولجت الضريح، قَبَّلت قبر الولي المنتصب أسفل القبة، وأخذت تتمسح به طالبة راغبة راجية متوسلة...
أخذت تلف حافية القدمين بالشجرة المباركة سبع لفات تحت إيقاع طبول وصوت المزمار الآسر لفرقة عيساوة*، تسترق النظر للشاة المطلية بالحناء التي تنظر إليها بحنان...
استسلمت لإيقاع الطبول التي تقرع في أحشائها، ونغماتِ المزمار التي أخذت ترفع روحها عاليا، بدأت تتمايل مع إيقاع الموسيقى، أحست بدفء دماء الشاة التي تغرفها الشيخة وتسكبها بكلتا يديها على جسمها الذي بدأ يترنح على إيقاع الطبول وإيقاع ترنح الشاة الذبيحة، أحست أنها فقدت السيطرة على جسمها وأوكلت زمام أمرها إلى عالم غير مرئي، أخذت تمرر الدم الدافئ غلى وجهها وجسدها، لم تعد تحس من عالمها إلا بقرع الطبول وصوت المزمار اللذين سافرا بها إلى عوالم أخرى، عوالم سلبت روحها وتركت جسدها يترنح بلا هوادة، قبل أن تسقط مغشيا عليها...
توقفت الفرقة عن العزف دون أن تتوقف الشيخة زليخة عن ترديد تعاويذها التي تطرد الجان من جسد جميلة...
جلست جميلة بجوار عريسها إبراهيم راسمة على محياها ابتسامة عريضة توزعها على المدعوين ورأسها يتمايل منتشيا بأهازيج الفرقة الموسيقية،أخذت تتحسس الحرز المثبت تحت فستان عرسها وهي ترسل نظرات التشفي لخديجة صديقتها اللدود.
سليم بوشخاشخ
المغرب
*عيساوة: نوع من الموسيقى ذات أصول صوفية، نسبة إلى الطريقة العيساوية لمؤسسها الشيخ الكامل محمد الهادي بن عيسى المغربي