أسال ماءها مقطع من رواية ندوب خلفية
بقلم الأديبة لمياء بولعراس
اختلست من الزّمن بصيص نور ولكن سرعان ما أظلمت الذٌكرى أمامها ، و سرى في دهاليز الماضي إيقاع خطواته أحسٌت بقدميه تدوسان على كل طرف نديّ ناعم فيها ..خاتلها شعور بالاختناق ،دخلت الشرفة لتسترجع أنفاسها ،أرسلت نظرة على الساحة المقابلة لمسكنها رأت نفسها تترجٌل بين جمع من الفتيات يقطعن الأزقة المؤدية للحنفية الجماعية الواقعة على طرف من ساحة المدينة العتيقة ..كانت تمسك دلوا وجرة ،تمشي في خوف وتحدّ وهي مابين رعشة نخوة ومغبّة ترصٌد كانت تسير... تتبعها الفتيات وكأنهن يشددن أزر بعضهنّ ما هذا الإرباك ؟! المهمٌة هيٌنة ملأ الجرة والدلو ماء لتزويد حاجيات العائلة هذه المهام لا توكل في العادة للذكور لهم واجبات تُؤدى لتلبية نداء الأهل والبلاد
سارت وهي تهزّ بضفيرتيها على كتفيها وفق حركة رأسها تتفقد الساحة وجنودها الحارسين لها ،ممٌن يحرسون الساحة ؟ هذا المكان له حرّاس أشدّاء ناسه وأولياؤه الصّالحون سيدي المسطاري . ..سيدي بن عيسى ..هذا ما كانت تتناقله أمٌها مع جليساتها "هذه البلاد عتيدة و"صلاحٌها " أشدّاء .."
استرجعت بعض أنفاسها في لهاث مستمرٌ وهي قابعة في الشرفة يكاد يتهاوى نصفها العلوي من على السياج المحيط بها ..تهالك جسدها وغمرت الحلكة الساحة إلا ذلك المشهد فيه بصيص نور لا يتّسع إلاّ لحدقتيها كي ترمُقا هذه الفتاة.. تابعت نفسها تعبر بين صفّين من الجنود لتقترب من الحنفية العمومية "العين" ملأت الفتاة السابقة لها سطلا وما إن بادرت بالمغادرة همس لها جندي بكلام ،احمرٌت وجنتا الفتاة ورفعت بكتفيها إيماء بالرّفض لما قيل لها ، دفع الجندي السّطل برجله أرضا وغمغم بكلمات لم تفهم مغزاها لا هي ولا الفتيات المرافقات لها في نفس المهمة ،ركضت الفتاة الشقراء بعيدا ولم تلتفت وراءها .
جاء دورها لتملأ الماء ،كانت تنظر خلسة لقدمي الجنديّ المراقب لحركاتها بين انحناءة واستقامة ،جسدها لم تكتمل أنونثته بعد ،أدركت البلوغ منذ شهور قليلة ، هي يافعة أمطرتها الحياة غيث المنى مع تدفق الماء في الجرة ،كم تاقت لهذا الغيث ليغيثها وعائلتها من شحّ العيش وجفاف الكسب ،سنوات قحط أوقعت بها للحاجة الضمأ والجوع ..
طفح الماء من الجرة حملتها في حياء وابتل ثوبها فالتصقت أطرافه بجسدها ،تبعها الجندي وهو يحاول مساعدتها في حمل الدلو ،لم تفهم لغته ،ولم تستعب غاية إصراره على مساعتدها ..
وقع خطاه وراءها يصدر طنينا في أذنيها ساعتها و يتناهى الطنين إلى مسامع سيدة الشرفة فتصاب بالصٌمم ما عدا صوت الخطوات التي تقتفي أثرها وأثر بكارتها .
لم تعد الفتاة تعبأ بالماء ولا بالجرة التي وقعت منها وكسرت ،كل ما تدركه هو التعجيل في قطع هذه الأزقة لتصل لبيتها ..
رمت بالدلو أرضا حين أقتادها الجندي لبيت مهجور أوقعه القصف ..كمّم فمها بكفّه ،أسال الماء الذي جمعته ،وأسال فيها ماؤه المعكّر بغرائزه الاستعمارية .
فزع الكون لصراخها بكتها الخطيئة نفسها تكبدتها ولم تكن طرفا فيها ..أوقعها فيها وشمعدان صباها لم يوقد بعد
غادر المكان ولم تتمكن من مناداته ،مااسمه ؟ أسال دمها ،ماء
ضمئها ،ولم يبق فيها سوى مائه العكر ..لملمت ثوبها وفخذيها وعادت أدراجها لبيتها ،تندب صباها .
تفطنت أمها لحالها لطمت وجهها ترابا وحملتها في حضنها طيرا جريحا انكسر جناحه ولن يجبر أبدا أخذت تعدّ بأصابعها الأيام الباقية لدورة ابنتها الشهرية "استرها يا رب "
أمسكت سيدة الشرفة بأسفل بطنها وقد انقطع عنها النفس فدخلت الغرفة لتسكت صوت الطفل الذي رجعّت صداه الجدران وساحة الحنفية ونظرات الفتيات يحملن جرار المياه ليبللن ريقها ...
لمياء بولعراس