صديقاتي أصدقائي مساء الخير .
نلتقي مجددا اليوم في فقرة إضاءات نقدية بمنتدى نبض القلم للشعر والأدب متناولين نصا قصصيا قصيرا موسوما ب " أنا رجل .... أنا رجل ..." للكاتبة المغربية لطيفة ناجي .
******************** **********************
قصة قصيرة :
". .. أنا رجل.... أنا رجل..."
🌅شعاع نور تسلل عبر النافذة، تحركت على سريرها فشرخ الصمت صرير سرير متهالك، فتحت عينيها وهي تتثاءب، فركتهما بيديها وهي تتطلع إلى المنبه. هذه أول مرة يخونها منذ سنوات تعودت فيها على الاستيقاظ على وقع رنته، لتبدأ رحلتها اليومية الشاقة. قامت من نومها بتثاقل وهي تتأمل في المكان المجاور من مرقدها ، مررت بيدها المرتعشة على الوسادة الباردة، تنهدت ثم وضعت وشاحا مزركشا بألوان باهتة غطت خصلات تكالب عليها الشيب فأضحت كلون الرماد البارد. أحست ببعض البرودة تدب في فرائصها البارزة عظامها ، اغرورقت عيناها فحبست دمعة ودت لو تنحدر. كان الظلام المتأخر من الليل الطويل لازال يلف الأشياء القابعة في تلك الغرفة الباردة المعالم والتي شهدت مراحل عمر كامل. فتحت النافذة على مصراعيها فغمر الغرفة ضوء شمس الصباح المنعش. كعادتها أصرت على ترتيب السرير وهي تتأمل في ذلك اللحاف المتهالك، كل الورد المرسوم عليه تغيرت ملامحه، أصبح ذابلا من أثر القدم وكأن الزمن الرهيب تكالب عليه ليحرمه رونقه وبهاءه. مررت بيدها عليه وكأنها تتحسس ملمسه الحريري، وكأنها تداعبه، قشعريرة رهيبة سرت في ذاتها. ابتسمت،تذكرت يوم لمحت وجوده أول مرة، على سريرها الكبير، كانت تزينه بضع بتلات ورد حمراء وعبق العود والعنبر يملأ الأجواء عطرا نديا، شموع حمراء تتراقص ظلالها على الجدران المزينة ببساط تركي وبعض اللوحات التي تعرض مناظر طبيعية. كان ذلك منذ عقود مضت :تذكرت أول ليلة دخلت فيها هذه الغرفة، وهي عروس تزف إلى المرحوم السيد سعيد، زوجها. ذلك اللحاف هو أول شيء جذب انتباهها بألوانه الساحرة، تخيلت حياة وردية الأحداث وهي في زيها الأبيض،عروسا، والخجل باد على محياها وهي تتثاقل في مشيتها محاطة بالبنات والنساء، كانت في ربيعها الثامن عشر، فتاة بضة مكتنزة وذات جمال مبهر. لحاف وردي، كلون أيام سعيدة، مزركش بورد أحمر ووريقات خضر متناسقة على شكل إكليل منمق. لم تجرؤ على تفحص الغرفة الصغيرة في الدور العلوي من المنزل فحياؤها يمنعها من ذلك. تراءت لها صور من ذلك الماضي الجميل الذي عاشت فيه أحلى أوقات عمرها. هي لم تنجب أبدا، ولم تعرف أبدا السبب . لم تحض قط بزيارة طبيب النساء لأن الأعراف والتقاليد لا تسمح للمرأة بزيارة الطبيب. استكانت لأمر زوجها وعائلته، ورضخت لنزواته حين قرر الزواج من إمرأة ثانية هي ابنة عمه التي كان يحبها وهو لايزال تلميذا في المرحلة الإعدادية وكبر ذلك الحب الصامت، وكبرت الأحلام والأماني، وقرر الزواج بها بعد إنهاء الخدمة العسكرية. لكنه يفاجأ عند عودته بزواج ابنة عمه برجل يعمل في الديار الكويتية. كانت صدمة عاطفية قوية قرر بعدها الإرتباط بامراة من إختيار والدته، زواج تقليدي حسب الأعراف والتقاليد ولكنه لم يكلل بأطفال رغم مرور ما يقارب السنتين على الزواج،وبيت بدون أطفال يشبه حديقة بدون أزهار ولا أشجار. رغم كل المحاولات، وأخذ للأعشاب الطبية والوصفات التقليدية، لم يكن هناك حمل لذلك قرر الزوج الارتباط بزوجة ثانية طمعا في الحصول على أبناء وظنا منه بأن زوجته عاقر. نحن نعيش في مجتمع لازال الرجل يظن بأن السبب في عدم الإنجاب يعود دوما إلى المرأة . زواج السيد سعيد من بنت الجيران الأرملة تسبب في شرخ قلب المسكينة التي كتمت لوعتها وضمدت جرحها الغائر بالصبر والصمت. كان عرسا تحدثت عنه ألسنة الأقارب والجيران لعدة أيام. هجر السيد سعيد غرفة آمنة، الزوجة الأولى وتفرغ للعروس الجديدة. أصبح أكثر نشاطا وحيوية، وضحكاته تجلجل في أجواء البيت وكأنه طفل حضي بلعبة جديدة طالما رغب فيها .لم تشأ آمنة طلب الطلاق من زوجها، لأنها كانت تكن له حبا كبيرا واحتراما غير معهود. كانت ترى فيه الزوج والحبيب والأب والصديق. مضى على ذلك الزواج اكثر من ستة أشهر، وطال انتظار السيد سعيد وأهله ولم تظهر علامات الحمل على الزوجة الثانية. بدأت أعراض الشك تظهر على تصرفاته ، وهو يسأل كل شهر :"هل من جديد؟ " فتهز الزوجة رأسها بالنفي وتخبئ وجهها في الوسادة. كانت آمنة تقوم بكل شؤون البيت من تنظيف وغسيل وطبخ، لم تشتك يوما من ثقل الحمل رغم ابتعاد زوجها عنها. كان ينظر إليها وكأنها غريبة عن الدار. مرت السنة الأولى ثم الثانية ففقد أعصابه، وأخذ قرارا :قام بتطليق الزوجة الثانية التي أرهقته بطلباتها ونزواتها التي لا تنتهي والتي لم تستطع إهداءه طفلا. عاد إلى حضن آمنة الدافئ، والآمن، كانت ودودا ،سامحته حين عاد إليها باكيا شاكيا من قلة حظه في النساء وفي فرحة بطفل يزين فراشه. ربتت على كتفيه وقالت له:"ربما العيب منك، يا زوجي العزيز". أثارت هذه العبارة جنونه فصاح في وجهها: "أنا رجل... أنا رجل... ، وسوف أتزوج من ثالثة ورابعة حتى أنجب طفلا وأبرهن لك على أنني على صواب. أغربي عن وجهي لقد مزقت قلبي وقتلت حلمي، كلماتك رصاصة اخترقت كلّي ..." وبكى بكاء مريرا في زاوية من الغرفة وكأنه يدرك الحقيقة المرّة ولا يودّ الإعتراف بأنه لن يستطيع الإنجاب مهما تزوج من نسوة.
لم يتزوج للمرة الثالثة لأن طليقته، تزوجت مباشرة بعد انتهاء عدتها، وهي الآن حامل بشهر، سرى الخبر في الحي ودوت الزغاريد من الفرحة وفي قلب السيد سعيد ،انطفأت شمعة الأمل ،أدرك حينها بأنه غير قادر على الإنجاب. أحس ببعض الإهانة وبأنه ظلم آمنة إذ رماها بالعقم وعاقبها بالزواج من امراة ثانية. أثر الصدمة كان قويا، بقي بسببها لأيام وهو يعاني من شدة الألم والندم. سهرت آمنة على راحته خلال فترة مرضه، لم تبارحه قط إلى أن فارق الحياة، ذات صباح، تاركا آمنة لوحدها تصارع أهوال الحياة. لم تشأ قط الزواج مرة ثانية إذ أقسمت بأن تبقى وفية لزوجها حتى بعد وفاته حتى لا تشرخ كبرياءه حتى وهو في العالم الآخر.
صور من الحياة
بقلم لطيفة ناجي.
_____________________"""""""""""""___________________
النص الذي بين أيدينا يتطرق إلى ظاهرة اجتماعية شديدة التعقيد والخطورة وهي تعكس نظرة الأنا والآخر لمفاهيم الرجولة في بعدها الفحولي والعقر وعلاقة الرجل بالمرأة من منظور الوسط الذي تتحكم فيه النظرة الذكورية الفجة .
نص الأديبة لطيفة ناجي تلعب فيه شخصية السيدة أمينة دور البطولة بدون منازع ، من جهة تعتبر ضحية لزواج فاشل لأنها لم تخلف أبناء ومن جهة أخرى تضحى تلك المرأة الصامدة رغم الجرح والانكسار واليأس ، الذي يتقمص في النص دور الكومبارس رغم أنه السبب في مآسي البطلة لم يكن سوى زوج أمينة السيد سعيد الذي ضاقت به الأرض بما رحبت عندما انتظر من زوجته أبناء بدون جدوى ، ناعتا إياها بأنها امرأة عاقر ، الأمر الذي سيدفعه إلى الزواج ثانية من فتاة أخرى من اختيار والدته بعدما فشل في الاقتران بابنة عمه ، السيدة أمينة اكتنفها الذبول في كل شيء كما تذبل الورود المحرومة من الماء والهواء وصارت تجتر الألم وهي في بيتها وحيدة بعدما خصص زوجها كل وقته للزوجة الجديدة أملا في الظفر بمولود ، السيد سعيد سييأس بعد وقت طويل من الخلف ويطلق الزوجة الثانية ، يعود الى السيدة أمينة التي استقبلته بكل حفاوة وكرم لأنها تحبه ، ومن حبها له صارحته بأنه ربما يكون هو السبب في استحالة ازدياد الأبناء ليثور في وجهها مرددا : أنا الرجل ... أنا الرجل . ألم آخر سينضاف إلى قلبه الواهن بعدما علم أن طليقته حامل من زوجها الجديد ليتضح أمامه كل شيء ، بعدها يمرض وبموت .
النص مفعم بالقيم الإنسانية النبيلة التي عكستها شخصية السيدة نبيلة من حب وإخلاص ووفاء وصراحة مادامت صارت على العهد في حياة زوجها وبعد رجليه ، كما هو مفعم بالظواهر الزائفة من أنانية وادعاء الفحولة والذكورة الفجة التي عكستها شخصية السيد سعيد ، ومفعم أيضا بنظرة المجتمع الذكوري إلى علاقة الرجل بالمرأة وأهمية الولد ومصير الزوجة في حالة استحالة وجود الأبناء .
العادات الاجتماعية الموروثة فرضا أرخت بظلالها على النص من قبيل امتناع الزوج عن عرض نفسه على الطبيب كما يفعل بالمرأة ، وتزويج الرجل من طرف أمه .
النص مهم للغاية مادام يتطرق لمثل هكذا مواضيع ، قوي في عنوانه : أنا رجل .... أنا رجل " وهو مقتبس من لحظة ثورة زائفة من السيد سعيد في القصة .
النص استجاب لمحاور القصة وعناصرها من بداية ونهاية وزمان ومكان وحوار وشخوص .
أسلوب القصة القصيرة التي بين أيدينا سلس أنيق موصل إلى المعنى المقصود .
نحسب نص الكاتبة لطيفة ناجي غنيا في رمزيته الاجتماعية والنفسية اخترناه لتقديمه من خلال هذه الورقة .
إلى أن نلتقي في الأسبوع القادم مع نص آخر وقلم آخر نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه