[عجين الفجرية]
ل ندى مأمون.
--------------------------
أصبحنا وأصبح الملك لله، أعوذ بالله من شياطين الإنس والجن ...اعتدت أن أقول ذلك بصوت عال كلما مررت من أمام دكانه...وكلما نشرت المواقع الإخبارية خبرا عن زيادة التسعيرة...فقد كان يرهقنا كل مرة بأفكار خلاقة، يزيد بها غيظ أهل الحارة...ويدفعني كل مرة لمنازلته...والدفاع عن أهل حارتي ضد جشعه...
هذا الصباح ...نصب أمام أعيننا ميزانًا وضعه في منتصف
<الفاترينة>...ورائحة الخبز الطازج تفوح من دكانه، وتفتح شهية كل من يمر...وكأنه يرسل لنا إشارات (مورس) عبر ميزانه ...ومن يفك الشفرة قد يحصل على رغيف مجاني!...يتلاعب بنا كما تتلاعب الأسعار.
والأدهى أن أغنية سيد درويش تتعالى من مذياعه <الحلوة دي قامت تعجن في البدرية...كوكو كوكو ...>
ولو يعلم مدلولها لما اختلطت نغماتها مع عجين خبزه الغالي الذي يحرمنا إياه ...لكن ماذا أقول ...حسبي الله ونعم الوكيل .
جشعه دفعنا للمقاطعة...وقررت اليوم أن لا أرضخ لبطني التي تموء مواء قط بلدي من رائحة الخبز...لا يهم ...سأتجاوز دكانه ...وأذهب إلى الجامعة دون إفطار...يجب أن تنجح المقاطعة...وما أن ابتعدت خطوات ...حتى سمعته يناديني...
-عبد الحميد...يا عبد الحميد...يا ولد !!
لم ألتفت إليه...وزفرت في غل.
- نعم يا حاج شفيع .
-تعال يا ولد...
رددت عليه و ما زلت أعطيه ظهري...وأقرأ المعوذتين حتى ينصرف ...
- مستعجل ...مستعجل جدا يا حاج شفيع.
وسمعت ضحكته الرقيعة، وهي تخبط في جدران المنازل المجاورة...ثم قال...
- لا تستعجل، دروس الاقتصاد البائسة التي تأخذها في الجامعة...سوف أختصرها لك في دقيقتين، صدقني اقتصاد الدقيق والماء ...مفيد أكثر من كتب صفراء عفا عليها الزمن ...تعال يا ولد .
نظرت إليه بحنق، أتأمل فيلسوف الاقتصاد الذي صنع العجين خرائط متفرقة على ثوبه الغامق...هو يريد التسلية، وأنا عازم على هزيمته، لن يربح عم شفيع بعد استهزائه بي اليوم ...لكن أتمنى من الله أن يلهمه حتى يحشر في فمي قطعة خبز، ولو صغيرة، قبل المنازلة كي لا تفضحني أصوات بطني الجائعة أمامه .
دخلت معه الدكان، ووضعت كتبي الصفراء على حد قوله، قرب ميزانه على <الفاترينة> ويدي اليمنى تجاور أنفي وفمي...تمنعهما من فضح جوعي أمامه، لا أريد أن يسيل لعابي...ولا أن يسرح أنفي مع رائحة الخبز...أريد التركيز في منازلتي مع هذا المتفلسف.
قلت له بقليل من الصبر...
- تفضل ...اشرح اقتصاد...وبإيجاز لو سمحت.
انفرجت أساريره وشعر بانتصاره حتى قبل أن تبدأ المنازلة...رفع كوب الشاي الأسود إلى فمه، وهو يتفحصني مبتسما، وقال لي ...
- اصبر ...الحساب لا يحب الاستعجال..
ناولني ورقة ...وقال لي...
- اكتب.
- ماذا اكتب بالضبط يا عم شفيع؟!
- اكتب قيمة تسعيرة الخبز الجديدة التي أعلن عنها هذا الصباح .
كتبت التسعيرة على الورقة ...جنيها وأنا أتمتم ...
وسألته ...
-وماذا أكتب أَيضًا...
قال لي ...
-اكتب تسعيرة المواصلات التي سوف تذهب بها اليوم إلى الجامعة...وقيمة العصير الذي سوف يسعفك به زملاؤك عندما يغمى عليك من الجوع...وثمن كشف المستوصف والتاكسي الذي سوف يأخذونك به إليه ...ومحاليل <الجلكوز> التي ستعلق لك لإنقاذك من هبوط السكر ...و...
صحت في بؤس ...
-يكفي...ما كل هذا؟
أشاح وجهه عني، وهو يراقب استواء العجينة في فرنه الواسع ...وصوت بطني يختلط مع صياح الديك في أغنية درويش <كوكو كوكو...> ...
-إنها الحقيقة...أنت تحرض أهل الحي حتى يقاطعوا الخبز ...وتعدهم ب <فذلكات> اقتصادية بعد تخرجك من الجامعة - هذا لو بقيتم أحياء- ،ولم يقتلكم الجوع ...
صدقني ...إنهم ينتظرون ذهابك مع جوعك وكتبك إلى الجامعة ...ويأتون لي خلسة بعد ذهابك ليشتروا الخبز...وبالتسعيرة التي أطلبها...الجوع لا يعرف الأسعار...
انظر خلفك ببطء...الأستاذ كهرمان يقف عند الزاوية ...ينتظر انصرافك حتى يأتي إلي ليشتري الخبز...
يصفقون لك ولشعاراتك البائسة...وتنام أنت على جوع ... وفي الصباح يأتون ليجمعوا الخبز...
قلت له وأنا أغلق مسام أنفي أكثر، وأقاوم منظر الخبز الشهي...
-لا تقنعني يا عم شفيع...الناس واعية...لن يرضوا بالاستغلال...اليوم نصبت لهم ميزانا لتبيع لهم الخبز بالوزن ...وغدا الله أعلم ربما علقت لهم شاشة <بورصة> لتداول الخبز ...أنت صاحب ابتكارات خلاقة يا عم شفيع ...
نظر إلي وهو يلوي شفتيه امتعاضا ويأْسًا من إقناعي...
-حسنًا يا عبد الحميد ...اذهب إلى جامعتك...وقل ما شئت...ردد شعارات لا يؤمن بها سواك ... شاغب كما تشاء...لن يستمع لك أحد...البطون الجائعة لا تسمع...هل سمعت...لا تسمع.
نظرت إليه نظرة اختلط فيها كبرياء منتصر...وتوسل جائع لقطعة خبز في ركن الطاولة...وتمنيت أن لا يفسر تلك النظرة...
قلت له...
-حسنًا هل انتهيت يا عم شفيع؟...لقد تأخرت...مع السلامة .
ومضيت من أمامه قبل أن ينطق، ويزيد من فلسفته وهرطقاته المستغلة...وأنا أفكر في أهل الحارة...هل حقا ما يقوله؟...هل هم خونة كما يزعم؟
كان علي أن الحظ امتلاء خدودهم وبروز بطونهم ونحول جسدي المناضل...لكني غبي لم الحظ ذلك...لكن لا... هذا الرجل كاذب...يريد إشعال الفتنة...وتقسيم الصف.
وعند ناصية الشارع...تذكرت كتبي...يا الله...أين هي...لقد نسيتها عند <الفاترينة>...وعدت مسرعًا إلى فرن عم شفيع...وإذا بي أرى صفوف أهل الحارة، الصغير منهم قبل الكبير ...وهم يتدافعون عند ميزانه ...ليوزن لهم الخبز بالكيلو!!
...الخونة...الأغبياء...
وصوت أغنية درويش ما زال يتعالى من خلفهم في منظر غريب ...لقد تلاشت أحلامي المنقذة لهم من استغلال عم شفيع مع حركة أيديهم الممدودة للخبز ذو التسعيرة الجديدة ...لم يعبأو بي...لم يلتفت أحد...
وتعالى صوت الأغنية مجددا ، ليختلط مع صوت بطني المناضلة...في سمفونية عبثية يائسة...
<والديك بيدن... كوكو كوكو... في الفجرية>
...يال البؤس والخيبة .
<انتهت>
--------------------------
*الكاتبة: ندى مأمون إبراهيم.
2023