وكشَّر عن أنيابه ثانية …./ قصة قصيرة
ليلى عبدالواحد المرّاني / العراق
اصطدم بي.. سقطت حقيبتي، رفعها.. التقت أعيننا. قشعريرةٌ أصابتني كمن دُلقٓ عليه جردل ثلج، (اختضّت) لها كلّ خلايا جسدي. معتذراً، وابتسامةٌ حاول رسمها، أطلقت خوف فأرةٍ وقعت في مصيدة، سحبت ابنتي الصغيرة لأهرب. قوةٌ خارقة تفجّرت في عروقي فجأة، وتحدّيت خوفاً عتيقاً سكن أعماقي، وأعلنتها مواجهةً مفتوحةً لأوّل مرّة، أسلحتي كانت حقداً دفيناً، وصرخة مكتومة ظلّت تعذّبني سنين وسنين..
نظراته اللّزجة، لا تزال كما كانت، قيحاً يلوّث وجهي، فأمسحه، وألف شيطانٍ يتراقص فوق ابتسامته، أنيابه استطالت أكثر، حتى أحسستها تقطِّر دمي ودم ضحاياه الأخريات.
ذئباً جائعاً لا يزال.. لهثت أنفاسي خوفاً.. وشهوةً قديمةً تنزُّ عفناً أنفاسه تلفحني، تحوم حولي. تصبّبتُ عرقاً في يومٍ تمّوزيٍّ بامتياز، أشعلته جحيماً حممُ غضبي وتشظّيات ثورةٍ مكتومة كست معالمي.
سياطُ لهبٍ تضرب عشراتِ الأجساد المنهكة من الانتظار، طابورٌ طويل يقفُ بإعياء، وحفيفُ أوراقٍ يحملونها، يحاولون تحريك الهواء، علّ نسمةً باردة ترطّبُ أفواههم الجافّة، وأنا لا أزال متحدّيةً، أنظر إليه بكلّ عنفوان ثورتي وحقدي المفاجئين، وأمسح عرقاً أخذ يتصبّب حتى من أظافري. أحسستُ بانغراس أنيابه في جسدي، حتى أكاد أخلع جلدي، تطهيرا من تهمة لصقت به.
عذبةً، رقراقةً كانت مياهي، تعكّرت حين ألقى حجره وسدّ مجراها، فأنبتت أشواكاً مسمومة، ظلّت ترافقني.
وسط فوضى الذكريات وتداعياتها، سألني، وليس من صدى لكلماته في أذني. جملة قالها اقتلعتني من متاهاتي: ابنتك جميلة، تشبهك..
وبخوف، خبّأت طفلتي خلف ظهري، أحمي جلدها الطريّ من إثم نظراته الباحثة عن الخطيئة. تتذمّر صغيرتي، بنت السابعة عشرة أجدها فجأة أصبحت، لا تمشي بقدمين، بجناحين شفّافين صارت تحلّق، كما كنت أنا الصغيرة القادمة من أعماق قرية جنوبيّة، نهارها تقاليدٌ وعيونٌ تترصّدك وتحصي أنفاسك، وليلها رصاصٌ مجنون يشقّ سكون الليل بين حين وحين، ومآتم في الصباح تقام..
متعثّرة خطاي، دخلت حرم الجامعة، حاملةً وعوداً وأحلاماً كبيرة احتواها، واحتواني.. هو ابن المدينة بخبرة وتمرّس وتحت جناحيه طواني، وأطّر حركاتي وتطلّعاتي بإطارٍ اختاره، يناسب رغباته.
تقبّلته طوعاً وفرحاً أول الأمر.. انتفضت، وتمرّدت حين أصبحت أغلالاً تشلّ حركتي، وطوقاً ثقيلاً يلتفّ حول رقبتي، فأختنق..
الجمال لعنة، حقيقةٌ لم أدركها الاّ لاحقاً. نظراتٌ تلاحقني، وتطاردني أينما كنت، ارتحتُ لها، وفرحت، وامتلأت غروراً وزهواً، وحين استجبت، انتفض غول ُغضبه.. فاجأته جرأةٌ لم يعهدها من تلك الصغيرة، قابعةً تحت جناحيه كانت، متعثّرة الخطى، وطوقٌ ثقيلٌ تنوء تحت وطأته.. نبت لها جناحان، وطارت تستقبل الحياة.
عشت أحلاماً جميلة حملتها معي من قرية الشمس والرصاص، اغتالها بغفلة مني..
ــ تزوّجتِ؟ كم من الأبناء أنجبتِ؟
انتفضت من استغراقي وهذيان ذكرياتي على صوته يسأل..
ــ ثلاثة، وأنت؟
ــ ثلاثة أيضا، ولدان وبنت..
وبحقد عشرين عاماً، ملأها خيبةً وخوفاً، وخذلاناً، حين اغتال أحلى سنيني، وأطفأ جذوة أحلامي، وشوّه ناصع صفحتي، قلت:
ـ قد تقع ابنتك فريسة ذئبٍ، مثلك.
انتفض، وابتسامة أحسستها مرعوبةً طافت على فمه..
ــ ليست جميلة، كما كنت أنت.
الجمال إذن كان لعنتي، ومحنتي.
انتشلني صوت الموظّف المتثائب من جحيم آلامٍ حملتها عشرين عاماً، كفّنتها ودفنتها في مقبرة مهجورة، وها هي الآن تنتصب أمامي بكلِّ جبروتها وقسوتها، تنخر في جسدي حدّ العظم.
أخذت معاملتي من يد الموظف الكهل، وسحبت ابنتي هاربة، وبلوعة وحرقة سنين ظننتها انطفأت، وأنا أرمي سؤالي رصاصًا في وجهه
ـ لماذا فعلت ذلك؟
صوتي منتحباً تفجّر، وضحكةٌ لم أدرك مغزاها صاحبت صوته الذي مزّقني..
ـ كي أنفرد بك.. ينبذك الجميع، حتى معجبينك.. وتبقين لي.. لي وحدي..