جــدلــيــة الــديــن بــيــن الــعــقــل والــنــقــل
عندما ننظر إلى خلق الكون بُقدرة الله عزَّ وجلْ ، وكيف بدأت الحياة البشرية منذ خلق آدم عليه السلام ، وتكريمهُ عن باقي مخلوقاته بأن وهبهُ العقل للتفكر ، ولتدبُر أمور حياته وعبادة الله ، وأرسل الله الرسل والأنبياء إلى أقوامهم ومعهم الكتب السماوية لهداية البشرية إلى الطريق الحق ووضع لهم القوانين لإدارة شؤون حياتهم ، وبدأت حياة الإنسان تتطور من العصر الحجري إلى البرونزي والنحاسي ، إلى أن وصلنا إلى التكنولوجيا – عصر العلم والمعرفة – وكل ما وصل له الإنسان هو بفضل الله الذي وهبه العقل للبحث والتفكير ، وهل يمكن لهذا التطور وهذه التكنولوجيا أن تكون بدون عقل وتفكير ؟!! ولكن يوجد أيضاً سؤال آخر وهو : هل يمكن للعقل وحده أن يشرع ويبدع بدون الإعتماد على محركٍ له ويحثه على الإبداع ؟
ومثالٌ على ذلك من أخترع السيارة أو أي آلة في العالم ، هل كان له أن يخترع ذلك إلا بالعقل الذي وهبه الله له حتى توصل إلى اختراعه ، ولكن بعد ذلك هل ممكن لمن أتى بعده أن يُصنع هذه السيارة أو هذه الآلة بدون أن يعود إلى بحوثٍ من أجل معرفة آلية هذه المركبة ، أو كيف يُطور عليها ، فهنا عنصران متوافقان معاً ولا يمكن إستغناء أحدهما عن الآخر ، وهما العقل ومن ثم ما هو منقول إعتماداً على كُتب وأبحاث .
وكما قلت في بداية مقالي أن الله أرسل الرسل والأنبياء ومعهم كتبهم لكي يكونوا هادين وموجهين لأقوامهم ، فسيدنا آدم وإبنه شيث عليهما السلام أنزل الله عليهما الصُحف ، وكذلك الحال سيدنا إبراهيم ، وعلى سيدنا موسى عليه السلام نزلت التوراة ، وعلى داود عليه السلام نزل الزابور، وعلى سيدنا عيسى نزل عليه الإنجيل ، ومن ثم أتى القرآن الكريم الذي نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليكون خاتم الأنبياء وليكون رسولاً للناس كافة ، والقرآن خاتم الكتب ويجُبُّ ما قبله من كتبٍ سماوية ، وعليه اعتمادنا ، وعلى سنة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ، وبهذا يجب علينا كمسلمين وعلى علمائنا الموازنة بين العقل وبين النقل والذي يحاول الملحدون أن يغلبوا العقل على النقل ، فبداية علينا معرفة الفرق بين العقل والنقل فيما هم يخوضون ، وما موضوع خطاب التجديد الإسلامي الذي يتشدق فيه الكثير ما هو إلا غاية أريد بها باطلاً مبثوثةً من الغرب ، فلماذا لا نطالب بالتجديد لخطاب الدين المسيحي أو اليهودي .
فديننا ثابتٌ لا حاجة للتجديد منذ رسالة سيدنا محمد إلى البشرية وحتى تقوم الساعة ، أما الذي هو نحن بحاجة له هو تجديدٌ وإحياءٌ وإصلاحٌ لعلاقة المسلمين بالدين، والتفاعل مع أصوله والاهتداء بهديه؛ لتحقيق العمارة الحضاريَّة وتجديد حال المسلمين، ولا يعني إطلاقًا تبديلاً في الدين أو الشرع ذاته ، ويقول في ذلك الدكتور سيف عبدالفتاح : وممَّا زادني قلقًا واضطِّرابًا ما إرتبط بكلمة “التجديد” من تاريخٍ أسود، ارتبط بدعاةٍ أرادوا هدم كلِّ شيء، وطمس هويَّتنا التاريخيَّة وذاتيَّتنا الإسلاميَّة باسم “التجديد”، وكان حديثهم – في معظمه – مرتبطًا بالغرب والسعي إليه وتقليده ، وفي هؤلاء قال الأستاذ مصطفى صادق الرافعي: “إنَّهم يريدون أن يجدِّدوا الدين واللغة والشمس والقمر!!”، وهم الذين أشار إليهم شاعر الإسلام محمد إقبال، حين قال في بعض محاوراته: “إنَّ جديدهم هو قديم أوربا”
فالعقل : هو في اللغة من مصدر عَقِل بمعنى حبس ، وسُمي كذلك لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك والآثام وفيه التميز والتفكير والعلم ، والعقل عبارة عن مجموعة من القوى الإدراكية التي تتضمن الوعي والمعرفة والتفكير ، واللغة والذاكرة ، وهوما يُعرف بالملكية الفكرية للإنسان ، وبها يملك العقل القدرة على التخُيل والتمييز والتفكير ، ومسؤول عن معالجة المشاعر والأحاسيس والأفعال ، وبه يُميز الإنسان بين الحق والباطل وبين الخير والشر ، وبين النافع والضار ، قالى تعالى في سورة البلد – الآية 10 : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } *(1)وقد وردت كلمة العقل بصيغتين –الصيغة الفعلية والصيغة الإسمية- فبالصيغة الفعلية وردت في تسعٌ وأربعين آية ، كما يلي :
صيغة عقلوه : وردت مرة واحدة في سورة البقرة في الآية ( 75 )
صيغة نعقل : وردت مرة واحدة في سورة الملك في الآية ( 10 )
صيغة يعقلها : وردت مرة واحدة في سورة العنكبوت في الآية ( 43 )
وصيغة يعقلون تكررت ( 22 ) مرة
وصيغة تعقلون تكررت ( 24 ) مرة
أما بالصيغة الإسمية فقد جاءت مرادفات العقل مثل : اللب وجمعها الألباب ، والحلم وجُمعت على الأحلام ، والحجر والنهي ، والقلب والفؤاد وكلها جاءت بمعنى العقل ، وجاءت آيات كثيرة تدعو إلى إعمال العقل في النظر والتدبر والفكر*(1)
فالعقل البشري هو هبة من الله وتكليفٌ شرعي ميز به الإنسان عن باقي مخلوقاته ، فإذا فقد الإنسان العقل رفع الله عنهُ التكليف الشرعي ورفع عنه القلم وكما قال الشاطبي : (وقد جاءت الشريعة بحفظ العقل من جهتي الوجود والعدم»، وأضاف فضيلته قائلًا: ولِمَكانة العَقل السَّامِيَة، خَصَّهُ الله -سبحانه- بالتّكريم، وصَانَهُ وَوَقاه بالشرع الحنيف، عن الزَّيغ والجنوح والتَّحريف، وتعظيم الباري عن التشبيه والتمثيل والتكييف، ولذلك حَرَّم الشرع كُلَّ ما يُخِلُّ بِالعَقل ويُبَدِّده، أو يُتْلِفه ويفْسِدُهُ، وإذا غَاب العقل، سَقط التكليف، لأن الله -سبحانه- إذا أخَذَ ما أوْهَبْ، أسْقط مَا أوْجَب ) ، ووصف الله الذين لا يعقلون بأنهم كالأنعام بل أضلُّ سبيلا ، قال تعالى في سورة الفرقان – الآية 44 : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا } .
*(2) أما بالنسبة للنقل في الفكر الإسلامي فهو : (تحويل الشيء من موضع إلى موضع ، ونقله ، ينقله نقلاً فانتقل ، والتنقل : التحول- عن " لسان العرب لإبن منظور" والنقل إصطلاحاً هو ما انتقل عبر الأجيال من موروث ثقافي وحضاري ، ويقصد به في الفكر الإسلامي خاصة القرآن الكريم والسنة ، ويسمى النص والسمع والوحي والشرع *(2)
إن ما دفعني إلى كتابة هذا الموضوع المهم والحساس في الوقت الحاضر ، هو لما نراه من كثير ممن هم دُخلاء على ديننا ويفتون من غير علم في أمور كثيرة ، والتي نحن بحاجة أن تُرد هذه الأمور إلى إصحاب العلم الثُقاة والإجماع منهم في صحة ما هو منقول ، وبعض هذه الأمور المدسوسة قد تجعل من هم ضعفاء في الإيمان أن يُشككوا في ديننا وخاصة من كانوا أغراباً وليسوا عرباً ولا مسلمين ، ويكون لذك أثراً سلبياً على غير المسلمين ، إذا لم يتم توجيههم إلى ما هو صحيح ، وإلى هدايتهم إلى ديننا الحنيف ، ولا تكون الطرق القويمة والسليمة في توجيه أي إنسان إلى الهداية ، إلا بحثه على التفكير ، والعودة إلى كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام ، والبحث عن المصادر الصحيحة في أحاديث رسول الله التي فيها الكثير من الأحاديث المدسوسة أو الضعيفة ، وهذان الأمران لا يتمان إلا بإعمال العقل بالتفكير والتدبر ، وليس بالنقل وأخذ الروايات دون التأكد من صحتها ،فيجب ان يتطابق العقل مع النقل –العقل الصحيح والنقل الصحيح –
لم يترك الله أمراً في هذه الحياة دون أن يضع حلاً له ، فمع تطورات الحياة من عصرٍ إلى عصر ويتطور الإنسان معها ، فتحصل الإختلافات التي بحاجة إلى البحث عن حلولٍ لها ؛ وشرع الله باب الإجتهاد في حل هذه المشاكل الخلافية للوصول إلى النتائج المطلوبة ، وفي هذه الحال يكون المسؤول عن ذلك العقل في البحث والتقصي ، وما يُطرح من حلول نرده إلى كتاب الله ، لأن القرآن صالحٌ لكل زمان ومكان ، وفيه يجد الإنسان ضالته ، والمصدر الآخر الذي يجب العودة إليه هو أحاديث رسول الله التي هي شرائع وقوانين وتوضيحاً لما في كتاب الله ، ولكن هذه الأحاديث كما ذكرت سابقاً يجب أن تكون من مصادر موثوقة ، لأنه يوجد الكثير من الإسرائيليات وهي دخيلة على ديننا ، وكذلك يمكن أن يكون مصدراً آخر هو إجماع علماء الإسلام الثُقاة ، ويبقى مرجعنا الأول والأخير القرآن الكريم الذي لا مجال فيه للتاويل أو التشكيك والله الحافظ له ، قال تعالى في سورة الحجر – الآية 9 : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ومن ثمَّ سُنَّة نبيه عليه الصلاة والسلام .
وختاماً علينا كمسلمين أن نتعمق في أمور ديننا وكيفية التعامل معها حتى لا يُلتبس علينا الأمر ، وهو فرق منطقي في أمور ديننا ، وفي ديننا أمران هما : ( العقيدة الثابتة ، والأمور الدنيوية المتغيرة ) .
فأمور العقيدة هي أمور غيبية ومن ثوابت الإيمان ومستلزماته ، وكلُّ ما نصَّ عليها قرآننا الكريم ، أما الأمور الحياتية فهي متغيرة وتخضع لباب البحث والإجتهاد والتمحيص ، وهنا يكون دور العقل من التثبت بصحة المنقول ، فالعقل الصحيح لا يُخالف النقل الصحيح ، قال ابن تيمية : (ما جاء عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُ حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِفِطْرَةِ الْخَلَائِقِ ، وَمَا جُعِلَ فِيهِمْ مِنْ الْعُقُولِ الصَّرِيحَةِ، والقصود الصَّحِيحَة ، لَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ ، وَلَا الْقَصْدَ الصَّحِيحَ ، وَلَا الْفِطْرَةَ الْمُسْتَقِيمَةَ ، وَلَا النَّقْلَ الصَّحِيحَ الثَّابِتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا يَظُنُّ تَعَارُضَهَا : مَنْ صَدَّقَ بِبَاطِلِ مِنْ النُّقُولِ ، أَوْ فَهِمَ مِنْهُ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ ، أَوْ اعْتَقَدَ شَيْئًا ظَنَّهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ وَهُوَ مِنْ الجهليات ، أَوْ مِنْ الْكُشُوفَاتِ وَهُوَ مِنْ الكسوفات إنْ كَانَ ذَلِكَ مُعَارِضًا لِمَنْقُولِ صَحِيحٍ وَإِلَّا عَارَضَ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ ، أَوْ الْكَشْفِ الصَّحِيح ِ، مَا يَظُنُّهُ مَنْقُولًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَكُونُ كَذِبًا عَلَيْهِ ، أَوْ مَا يَظُنُّهُ لَفْظًا دَالًّا عَلَى شَيْءٍ وَلَا يَكُونُ دَالًّا عَلَيْهِ ) .
المراجع : *1- دار اليوم – دراسات إسلامية –"العقل في القرآن الكريم" .
*2 - مجلة العلوم الإنسانية والطبيعة – المختار أحمد أمين.
صخر محمد حسين العزة
عمان – الأردن
22/9/2023