(حمار جدّي / ربيع دهام)
لا أعرف لماذا، لكن رغم مئات المشاهد من صور وفيديوهات، وأفلام وكليبات، وفواصل ودعايات، وبرامج وترفيهيات، الُمجْتاحة جماجمَنا عبر كل الجهّات، لم يكن ليبقى في مخيّلتي، عند آخر كل نهارْ، إلا وجه حمارْ.
حتى أن خطابات السياسيين، ومواعظ رجال الدين، وفوقها، تقارير المذيعين، وتحتها، تحليل المحلّلين، وعن يمينها، توقّعات المبصّرين، وعن شمالها، أخبار الفنّانين، وأمامها، دموع "الممثّلين"، بل وحتى تمثيليّات أهل السيادة والقرار، جميعُها، بعد غروب الشمس تخفتُ، ويظل في رأسي نهيق حُمارْ.
ولا. ليس أي حمار. بل حمار جدّي بالذات.
حمارٌ ذو سحنةٍ فريدة لا تكاد تفارق ذاكرات الخلايا.
حمارٌ بإمكاني تبيانه ولو وضعتموه بين آلاف الحمير المشابهة حجماً ولوناً.
كما بإمكاني أن أميّز بين نهيقه وبين نهيق أيِّ حمّار آخر،
بما فيه حمار رئيس البلديّة، أو حمار رئيس الجمهوريّة، أو حتى... حمار السفيرة الأميركية.
ولا. لم تكن تلك موهبة خاصة أملكها.
ولا حتى ميزة بأذني أنا، أو بعيني.
إنّ الميزة، كل الميزة، كانت بعينِ حمار جدّي وبأذنه.
نعم. كانت لذاك الحمار، الذي أسماه جدّي "طروب"، أذنٌ يسرى مقطوعة.
وكان لذاك الحمار، الذي أسماه جدّي "طروب"، عينٌ يمنى مخلوعة.
وكان لذاك الحمار، الذي أسماه جدّي "طروب"، نعيقٌ لا يشبهُهُ نعيق.
لو فتحَ "طروبٌ" شفتيه للزعاق، ما خرجَ مع الهواء المندفعِ
صوتٌ.
أجل. حمار جدّي كان مبحوحاً.
بل وبمقدوركم أن تقولوا أن حمار جدّي، كان مخصيّ الصوت.
مخصيُّ الصوتِ بخلاف كل الحمير الناطقة في هذا العالم.
ألهذا أسماه جدّي "طروب"؟
ألأنّ الصمت بالنسبة لجدّي، كان ومازال، وسيظلّ، هو وحده الطرب الأصيل؟
ذات يومٍ، وبينما كنتُ أنا، ذاك الطفل الصغير، في الحظيرة مقرفِص القدمين، ومحتجباً تحت بطن الحمار، قرّر أن يطلق "طروب" برازَ
أمعائه للريحِ.
وصودف أنّ، المدعو أنا، كان تحت نقطة انطلاق البراز بالضبط.
وكنتُ ألبس قميصاً عليه خارطة العالم.
سقط البراز على الخارطة فلطّخها. وبالتحديد على جغرافيا الأمة العربيّة، من محيطها إلى خليجها.
هالني المنظر لمّا حدّقتُ في قميصي ورأيتُ.
وما زلت أذكر أنني خرجتُ من الحظيرة دامع العينين، ورحت أركض نحو أمي شاكياً باكياً.
- ماما ماما!، ناديتُها
- ما بك يا مجد؟، سألتني
- طروب!، أجبتها
سمعتُ صوتها يقول:
- طروب؟ ما به طروب؟
- طروب يا ماما حيوان
- أعرف هذا يا "تران"
حاولت أن أفسّر:
- طروب "شخّ" على الأمّة العربية يا ماما.
فسخرت أمي مقهقهةً:
- كله يـَ....خُّ على الأمّة العربية يا حبيبي.
ولمّا أزيل حجاب المسافة والأشياء بين عينيها وبيني، وصار بإمكانها
رؤيتي بالعين المُجرّدة، اتّضح لها قصدي.
- اخلع قميصك لأغسلها، إنّ روث الحمير نجسٌ، قالت.
- ليس روث الحمير هو النجس. بل حمار جدّي "طروب".
- طروب مجرّد حمار يا ماما.
"ما بها لا تفهمني؟"، احتججتُ في نفسي.
ولمّا صرختُ، خرج صوتي محشرجاً:
- هذا الحمار قد نجّس الأمّة العربيّة كلها يا ماما!
وضعت أمي راحتيها على كتفيّ، هزّتهما، وقالت:
- هذا الحمار يساعد جدّك في الحقل. وبفضله، وفضل أبي،
كان لنا هذا البيت الصغير. هل تفهم؟
وعندما لم أجب، أكملتْ:
- كما لسماد برازِه فوائد كثيرة.
هنا، أصابتني الحيرة فسألتها:
- كيف تقولين برازه نجساً، ثم تقولين لبرازه فوائد كثيرة؟
أجابتني:
- هذا يعتمد على مكان وجود البراز.
- ماذا تقصدين يا ماما؟، قلتُ لها
- ألا يقولون في ورقة الامتحانات: "ضع الكلمة المناسبة في المكان المناسب؟".
- لا أذكر، أجبتها.
صبّت نظراتها عليّ كأنّما تعاتبني، ثم قالت:
- جدُّك يا مجد، كان يمتطي هو الحمار. أليس كذلك؟
وافقتها بحركة من رأسي.
-أما أنت يا مجد، فقد جعلتَ حماراً يمتطيك!