سجن برج الرّومي ~
بقلم الأديبة فوزية عاشور
خلف قضبان سجن برج الرّومي أودعوه بعد الحكم عليه بستّة أشهر سجنا بسبب انتمائه لجمعيّة غير مرخّص فيها. كان يجلس هناك و قد ترك قلبه مع زوجته تلك التي تركها على أبواب ولادة ابنتهما البكر، كان الحلم يأخذه من نفسه أن يراها وهي تخرج إلى النّور رغم الظلمة التي تلفّ أرجاء الوطن في تلك السّنة التي عاقب فيها صاحب السلطة كلّ المعارضين له بالسجن أو بالاعدام بعد أن أحكم قبضته على مفاصل الدّولة . كان وهو في أقصى الشّمال يحاول أن يملأ رئتيه بالهواء الذي يتسرّب إليه بين القضبان علّه يأتيه بريح من يحبّ من أقصى الجنوب . لم يطل انتظاره طويلا حتّى جاءته رسالة من أخيه يخبره بولادة بكرته وأنّها و أمّها بخير. لم يستطع السّيطرة على مشاعره وهو يسمع الخبر امتلأت عيناه دموعا وصاح لقد أصبحت أبا أخيرا ولله الحمد وأخذ لسانه يلهج بالحمد والتسبيح ، بارك له أصدقاءه و فرحوا معه رغم صراخ السجّان أن كفّوا من الضجيج . كان كلّ يوم ينتظر خلف القضبان أن يطلّ عليه طيف أيّ من أسرته كي يسأله عن تلك الوافدة كيف هي ؟؟ !! بعد مضيّ نصف شهر حرصت زوجته أن تزوره صحبة أمّه وتأخذ معها الوليدة كي يراها أبوها. نودي عليه فخرج من خلف الساتر الحديديّ المضاعف بينهما ممرّ يسير فيه حارس جيئة و ذهابا. لم تصدّق عيناه ما يراه طفلة كوجه القمر أرسلها الله كي تضيء ظلمة أيّامه و لياليه الطّوال في ذلك السجن المرير. كانت أمّها ترفع عنها الغطاء و الطقس شتاء و تحاول أن تريها له و اخذتها محاتها و قرّبتها من القضبان كي يراها أفضل كان يسبّح باسم الرحمان و عيناه تمتلئان دموعا و عينا أمّه و زوجته تسيل دموعهما مدرارا. كان يمدّ يديه من خلف السّاتر الأول يحاول أن يوهم نفسه أنّه يلمسها يداعب أناملها الصّغيرة و يقبّل خدودها الطريّة . يتخيّل أنّه يشمّ رائحة عطر الرضّع مختلطة برائحة البودرة المعطّرة التي تميّزهم و تدفعك لتقبّل رقبتهم و تدفن أنفك هناك لتنهل من تلك الرّائحة المميّزة . و لكن لم تكن يداه للأسف لتصلان فبين الساتر و السّاتر ممرّ فيه كلب حراسة لن يترك حتّى الكلمات أو النّظرات تُتبادل فما بالك بلمس طفلة لم تتجاوز الاسبوعين بعد . كان مشهدا مؤلما مبكيا رغم الفرح حاول كلّ من الحاضرين أن يراه من الزّاوية التي تريحه . فكأنّه يحاول أن يلمس بيديه نبع الحياة ليدفع عن جدران سجنه كلّ إحساس باليأس يتسرّب إلى نفسه يوما بعد يوم ليقتل فيه كلّ شيء جميل. ولكن لا أحسب أنّ فيهم من يشعر براحة ، لا الأمّ المكلومة بفقد ابنها البكر ولا الزّوجة التي لم تفرح بزواجها فضلا عن ولادتها و لم تهنأ يوما بعد زواجها و زوجها يهرب من مكان إلى مكان خوف الايقاف الذي تمّ بعد زواجه بسنة تقريبا . و لا ذاك السّجين المقهور التي تقف قضبان حديديّة لعينة بينه و بين فلذة كبده كي يمسكها بين يديه و يقبّل جبينها ويسعد بضمّها . و لا حتّى ذاك السجّان المجبر على متابعة المشهد المؤلم الذي يدمي قلوب الحجارة التي تحيط بتلك القضبان الباردة ~
فوزية عاشور ~
08/03/2019
بقلم الأديبة فوزية عاشور
خلف قضبان سجن برج الرّومي أودعوه بعد الحكم عليه بستّة أشهر سجنا بسبب انتمائه لجمعيّة غير مرخّص فيها. كان يجلس هناك و قد ترك قلبه مع زوجته تلك التي تركها على أبواب ولادة ابنتهما البكر، كان الحلم يأخذه من نفسه أن يراها وهي تخرج إلى النّور رغم الظلمة التي تلفّ أرجاء الوطن في تلك السّنة التي عاقب فيها صاحب السلطة كلّ المعارضين له بالسجن أو بالاعدام بعد أن أحكم قبضته على مفاصل الدّولة . كان وهو في أقصى الشّمال يحاول أن يملأ رئتيه بالهواء الذي يتسرّب إليه بين القضبان علّه يأتيه بريح من يحبّ من أقصى الجنوب . لم يطل انتظاره طويلا حتّى جاءته رسالة من أخيه يخبره بولادة بكرته وأنّها و أمّها بخير. لم يستطع السّيطرة على مشاعره وهو يسمع الخبر امتلأت عيناه دموعا وصاح لقد أصبحت أبا أخيرا ولله الحمد وأخذ لسانه يلهج بالحمد والتسبيح ، بارك له أصدقاءه و فرحوا معه رغم صراخ السجّان أن كفّوا من الضجيج . كان كلّ يوم ينتظر خلف القضبان أن يطلّ عليه طيف أيّ من أسرته كي يسأله عن تلك الوافدة كيف هي ؟؟ !! بعد مضيّ نصف شهر حرصت زوجته أن تزوره صحبة أمّه وتأخذ معها الوليدة كي يراها أبوها. نودي عليه فخرج من خلف الساتر الحديديّ المضاعف بينهما ممرّ يسير فيه حارس جيئة و ذهابا. لم تصدّق عيناه ما يراه طفلة كوجه القمر أرسلها الله كي تضيء ظلمة أيّامه و لياليه الطّوال في ذلك السجن المرير. كانت أمّها ترفع عنها الغطاء و الطقس شتاء و تحاول أن تريها له و اخذتها محاتها و قرّبتها من القضبان كي يراها أفضل كان يسبّح باسم الرحمان و عيناه تمتلئان دموعا و عينا أمّه و زوجته تسيل دموعهما مدرارا. كان يمدّ يديه من خلف السّاتر الأول يحاول أن يوهم نفسه أنّه يلمسها يداعب أناملها الصّغيرة و يقبّل خدودها الطريّة . يتخيّل أنّه يشمّ رائحة عطر الرضّع مختلطة برائحة البودرة المعطّرة التي تميّزهم و تدفعك لتقبّل رقبتهم و تدفن أنفك هناك لتنهل من تلك الرّائحة المميّزة . و لكن لم تكن يداه للأسف لتصلان فبين الساتر و السّاتر ممرّ فيه كلب حراسة لن يترك حتّى الكلمات أو النّظرات تُتبادل فما بالك بلمس طفلة لم تتجاوز الاسبوعين بعد . كان مشهدا مؤلما مبكيا رغم الفرح حاول كلّ من الحاضرين أن يراه من الزّاوية التي تريحه . فكأنّه يحاول أن يلمس بيديه نبع الحياة ليدفع عن جدران سجنه كلّ إحساس باليأس يتسرّب إلى نفسه يوما بعد يوم ليقتل فيه كلّ شيء جميل. ولكن لا أحسب أنّ فيهم من يشعر براحة ، لا الأمّ المكلومة بفقد ابنها البكر ولا الزّوجة التي لم تفرح بزواجها فضلا عن ولادتها و لم تهنأ يوما بعد زواجها و زوجها يهرب من مكان إلى مكان خوف الايقاف الذي تمّ بعد زواجه بسنة تقريبا . و لا ذاك السّجين المقهور التي تقف قضبان حديديّة لعينة بينه و بين فلذة كبده كي يمسكها بين يديه و يقبّل جبينها ويسعد بضمّها . و لا حتّى ذاك السجّان المجبر على متابعة المشهد المؤلم الذي يدمي قلوب الحجارة التي تحيط بتلك القضبان الباردة ~
فوزية عاشور ~
08/03/2019