الخميس، 15 فبراير 2024

Hiamemaloha

أمهات الأولين / خاطرة للأديب الحسين صبري

 أُمّهات الأولين


أرْبَعون عامًا وأنا أرَ نفس الوجوه، أربعون عامًا وأنا أتحدث في أحاديث مُكرَّرة وتدور حول مسامعي نفس النِقاشات والحِوارات، جِدال بيزنطي لا طائل تحته وأخر مجادلة مُمَاراة يماري فيها البعض السفهاء، أربعون عامًا وأنا أنتظر بِهدوء

أربعون عامًا وأنا أكذب على نفسي وأقول القادم أجمل

 أربعون عامًا حتى عرفت أن عواطف الناس صُنعت من مواد مُتلاشية أو من مواد قابلة للإحتراق، للذوبان والإنصهار وحتى الإزالة

لا أعرف بالتحديد ما هو الشيء الذي تركني أو أبقاني أو جعلني في الإنتظار أربعون عامًا 

الدَّرْاجة التى لم يشتريها لي والِديّ، أم قِصة حبي الفاشلة والتى لا زلتُ أسرد فشلها على نفسي ولنفسي بينَ الفينةِ والأخْرى، أم شهادتي الجامعية، أم الثورة والتى تحولت إلى (هوجة) فأحرقت الأخضر واليابِس وبعثرت برياح تغييرها كل القيم والمبادئ وتركت أهدافها مجرد شِعارات لا أكثر وأخاف أن أقول دون محتوى


لطالما أحببت كرة القدم وعندما كبرت صرت كهربائي، ومن كهربائي أصبحت أستاذ أمسك الطَبشورة وأرسم على السَبُّورة الدوائر الكهربائية ومعادلات الفرنسي (بيير لابلاس) وأشرح للتلاميذ قانون (أوم) والعلاقة الوطيدة الحميمة بين المقاومة والأمبير،  وميكانيكا الموائِع والسلوك الفيزيائي للمواد


من صغري وأنا أحلم بالسفر لكني لم أخرج قَطّ من حدود بلدي المُترامِي، كم وَدِدْتُ أن أمتلك (بيانو) في بيتي فأمتلكت قطيع من الأغنام وقّنَّ دجاج

لا زلتُ كما أنا لربما الشيء الوحيد التي تغيّر كنت أناقش الأفكار في رأسي دون أن يعرف أحد لكني اليوم صرت أكتبها في دفاتري رغم أنها تتغذى وتأكل كل مشاعري

أربعون عام وأنا تائِه، أذهب إلى العمل وأنا تائه وأعود إلى البيت وأنا تائه، أنام وألفُ فكرة وسؤال يدور في ذهني أستيقظ لأجد بنفسي قد نمت على غير فراشي


ما هو الشيء الذي ما زلت أنا في إنتظاره، الإنسان الأكثر إنسانية القادر على إحترام نفسه، إحترام القانون والأخلاق أو أنا في إنتظار مدينة أفلاطون الفاضلة، مدينة خيالية يسكنها أناس طيبون يعيشون فيها بِسلام أو كالمدينة الفاضلة التى شبهها الفارابي بالبدن الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه كلها، أم أنني أنتظر حلم، حلمي والذي يراودني كثيرًا والذي أيضًا لن يتحقق، لن يتحقق لأنه زرع في بيئة غير مناسبة ولن ينمو أبدًا حتى وإن سقيته بِنهر من الدمع


أنا لا أعرف شكل أمّهات الأوَّلين، أُمّ طارق وموسى وعقبة والناصر صلاح الدين ولا أُمّ المعتصم ثامن الخلفاء العباسيين ولا أُمّ أول الخلفاء الراشدين ولا أم عثمان ذا النورين ولا أعرف شكل أُمّ الحسن والحسين فكل الذي أعرفه أن الأُمُّ مَدْرسةٌ فهي التى أنجبت كل الذين ذكرت وكل العظماء الذين لم أتي في ذكرهم وهم كـثـر

الأمّ اليوم يا صديقي كانت تلك الفتاة كل همها أن تتزوج وبطبيعة الحال ستنجب وستنجب ذكورًا ما شاء الله، ولكن أين الرجال، الرجل يا سيد لا يكذب لا يسرق لا يخدع والرُجُولة كلمة حق وموقف حق، ونصرة المظلوم على الظالم، الرجولة هي الأخلاق الكريمة والمعاملة الحسنة وهي الشجاعة في وقتها، هي أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، هي التضحية والفداء، هي المروءة والكمال يا رجل


هل أنا أنتظر في وطـن مُقْعد مشلول الأطراف رافعًا يداي داعيًا الله أن ينهض، صدقوني لن ينهض بهذه الطريقة وسيظل مُقعَدًا كَسِيحًا إلى أبد الأبدين أو أنتظر في إختراع جديد وحبّة دواء تُعطى له على الرِّيق وبعدها ينهض سالمًا معافى ينبض قلبه بالشباب لكن من أين لنا بتلك الحَبَّة فنحن لا نملك من العِلم إلا قليلاً

هل أنا أنتظر من منافق جاهل أن يبني لي مدرسة نموذجية وأن يرفع مستويات التعليم إلى أعلى درجاتها، وهل أنتظر منه أن يبني لي مكتبة كبيرة ليزداد العلم علمًا والعقل معرفة ويتنور الجميع وتصير عقول الكل كمصابيح تنير لنا الدرب

هل أنا في إنتظار الموت أو المَنِيَّة والتى ما زلتُ غير مُستعِدٌّ لها رغم إدراكي بأنها تأتي بَغْتة

أم أنا في إنتظار الأمل أو بعضٌ من أطيافه والتى في الأصل نسيت حتى شكلها ولونها

أمْ يجب عليّ أن أتحمل الإنتظار لمدة أربعون عام أخرى أو لربما عليّ أن أتحرر منه فحسب، فالإنتظار لا يجلب شيئًا وحتى وإن كان مغلفًا بالصبر مغمسًا برقائق أمْنِيَّة، لعلني سأكون خروفًا مثل خروف قطيعي يأكل ويشرب، ينام وينهض، يجري يقفز ويلعب لا يُؤرِّقه شيء سوى سِكَّين باتِرٌ كسكين العيد......

🖊الحسين صبري

Hiamemaloha

About Hiamemaloha -

هنا تكتب وصفك

Subscribe to this Blog via Email :