غفران ..على دروب الخطيئة
كانت تمشي بخطى منكسرة ذليلة وهي تجرجر خلفها أذيال حطام عمر كان أشد مرارة من العلقم .
تقوس ظهرها و وهن عظمها واشتعل الشيب في بهيم شعرها الطويل وقد لفته بظفيرة ثلاثية و نسيت منذ متى كان فعل الظفير .
كانت تمشي وسط الناس كشبح لتوه خرج من جرة احتجز فيها لسنين عديدة، تتجول بلا هدف . تقطع الشوارع بملامح ، شاحبة ، وجمال مصفر ذابل ، بعيون يائسة تشكي دون كلام مرار عيش أثقل كاهلها وأرداها ، حتى صارت تطوف جسدا بلا روح بين الآنام . تتجرع بندم ومرارة ويلات الحسرة على عمر ضيعته على عتبات الملاهي وعلب الليل تقارع كؤوس النبيذ وتنفث دخان سجائرها من بين شفاه ازرق لونها ولم يعد يجملها سوى أحمر الشفاه ، في وجه زبائن لحمها الطري الذين كانوا يستنشقونه بلذة غرام منكه بالحرام . هكذا ضيعت عمرها وهكذا ظل الدهر يلعب لعبته ويعيدها على جسد انثى استهواها إنحراف الطريق وآثرت الإنزلاق في ملذات العيش الرغيد ونسيت أن فاتورة الحساب ستأتي يوما ما لا محالة ثقيلة وباهضة الثمن .
و قد أتى هذا اليوم باكرا جدا ، بعد ما أصابها المرض وانتشر الخبر في كل تلك الأوساط الموبوءة التي كانت ترتادها فعزلها الجميع وأصبحت منبوذة غير مرغوب بها والكل يحتاط منها .. لم تعد العيون تطاردها كما كان منذ ذاك الزمان ولم تعد مرئية حتى العيان ، لم يعد أحد يعرف ذات الحسن والدلال التي كانت على طاولات الصالات مرغوبة وهي السلعة المشتهاة ... أضحت مجردة خرقة بالية تتقاذفها السبل وتنبح في وجهها كلاب الطرقات ،لقد انتهت صلاحية استعمالها ونفذ رصيدها تطوف بجسد خرب آيل للسقوط في أي لحظة من اللحظات ...
وبينما هي على هذه الحال وإذا بيد من وسط الزحام تمتد على كتفها وتستوقفها وتحثها على الإلتفات للوراء حتى استدارت ببطئ بعيون منكسرة سرعان ما استجمعت قوتها وحشدت كل ما بداخلها من غرور حينما أدركت أن اليد التي استوقفتها تعود لزميلها في الجامعة والذي طال ما كان يحلم بها شريكة لحياته غير أنها كانت ترفضه وبشدة لأنه كان مجرد طالب وأن طريق النجاح مازال أمامه طويل وشاق. وهي كانت في حاجة لرجل ثري قادر على تلبية حاجياتها و تحقيق أحلامها دون كد منها أو جهد..لم تكن أحلامه البسيطة لتوافق أحلامها الجامحة ولاطموحاتهاالمتمردة .
نظرت إليه وتصنعت عدم معرفتها به ، رغم أنه ناداها باسمها الحقيقي واستجابت إليه بسرعة وكأنه مر عليها زمن لم يناديها أحد به ، لقد كان ذلك واضحا من لهفتها و فضولها لمعرفة من يناديها ، كانت فعلا مشتاقة لٱسمها أكثر من أي شيء آخر كانت مشتاقة لنفسها التي ضيعتها وضاعت منها في براثين الإنحلال و حياة الفسوق التي هوت إليها ولم تجد يدا حنونة وقوية تنتشلها منها ...نظرت إليه وأنكرت معرفتها به وأكملت مسيرها ، لكنه لم يستسلم فتبعها وأخذ يسألها بإلحاح عن الأسباب التي أوصلتها لهذه الحال ...اغرورقت عيناها و ٱختنقت الكلمات داخلها ،صمتت لوهلة من الزمن كان يستعطفها بنظراته المحبة كي تتكلم ... وبعد صمت طويل أجابته بصوت ناعم متهدج :
-اغفرلي ...لم أكن أعلم أنك إنسان طاهر ونبيل وأنك أحببتني ...أحببتني بصدق.
لمس في كلماتها الندم وفي نظراتها الصدق وأنها صدقا تبحث عن غفران تتطهر به من أدران وحل ظل لصيقا بها ولا تدري كيف السبيل للتخلص منه ..فأجابها بحنو :
-أنا اليوم إنسان ناجح متزوج ورب أسرة ،ولي بنتان ... وأردف قائلا : - سأصتحبك الليلة لتبيتين معهن وفي الصباح ستتكلف زوجتي بك فهي رئيسة جمعية نسوية سيهتمون بك و إن شاء الله ستكونين في أيد أمينة وتبدئين حياة جديدة ..
ابتسمت له بقليل من الإمتنان وبعض من الريبة التي ساورتها -فهي ألفت الطمع في عيون كل الرجال الذين صادفتهم في حياتها - لكنها تداركت الأمر في حديث بينها وبين نفسها :
-ماذا بقي فيك أيتها الحمقاء ليطمع فيه ويغريه ..أقله أنه كان صادقا معك، وكنت جوهرته التي طال ما حافظ عليها حتى من نفسه.
ابتسم لها وكأنه قرأ أفكارها وحثها على قبول دعوته فاستجابت له دون تردد. فهو آخر قشة تستنجد بها وفعلا كان ذلك ، وكان لها الغفران الذي سألته إياه .
- نجلاء غفران سراجي من المغرب