وقفة في المعبر.
لم يخطر ببالي أني سأعيش لحظات عصيبة أثناء وقفة الانتظار الطويلة في المعبر...
لم أصدق أنه على بعد أمتار مني ، توجد قطعة مني... وجزء لا يتجزء من وطني الحبيب ، مدينة سبتة الغالية !
لكن ممنوع علي الدخول إليها إلابعد القيام بإجراءات عديدة...
المعبر ضيق ، ومن وراءالسياج السلكي الذي يكاد يكون حديدا أو فولاذا ، بعيدا هنااااااك ، يقف
في هيبة وكبرياء شيخ وقور ، جبل شامخ شموخ بلادي... لكن حزنا عميقا باد عليه ! وكأنه يشكو آلام السنين وجراحات الماضي... وكأن قلبه متعب بالمحن ، وحكايا الوطن وأسرار الزمن ...
وسرح فكري بعيدا...أتخيل شخصيات ربما عبروا من هناك ، أدباء ، وعلماء ، كتابا وشعراء كانوا، فلاسفة ورجال علم أو متصوفة فضلوا الإنزواء فوق قمة ذاك الجبل الحزين الصامد ، هروبا من ظلم حاكم ، أو تقربا لله بالتعبدو التأمل في بهاء تلك الأرض الطيبة وروعة جمالها ...
ثم خلتني أسمع صهيل خيول وجياد عربية أصيلة ، وعلى صهوتها أ بطال وفرسان أفذاذ مروا من هناك ، حاملين السلاح و الرسائل ...أو من هنا ، عبر هذا المعبر ، حيث أقف الآن ، والذي ربما كان ذات يوم حقلا شاسعا تتمايل فيه السنابل ، أو ضيعة كبيرة تنساب فيها العيون والجداول أو بستانا جميلا لجد من أجدادي ...
وسرح فكري أتخيل أسراب الطيور العائدة من الأندلس تسبح حرة طليقة في الفضاء الرحيب الواسع ، وتتنقل من غير تفتيش ومن غير تأشيرة و لا جواز السفر...
المعبر ضيق ... و الوقفة المرهقة طالت ... وإحساسي بالظلم والحيف في حقي وفي حق وطني يكبر و يزداد ...
ولأول مرة عرفت حقيقة المحنة التي يعيشها الإنسان في أرضه المغتصبة...
ولأول مرة عشت ذاك الإحساس الرهيب بالمعاناة التي يعيشها المواطن الفلسطيني في وطنه المسلوب ، وتلك المرارة التي يتجرعها كل يوم ليجتاز المعابر ذهابا وإيابا ، ويجبر على الوقوف فيها لساعات طوال، حتى يخضع للتفتيش والمساءلة ، مريضا أو جريحا أومتعبا... وقد يمنع من العبور وهو على بعد أمتارمن أرضه أوحقله أو ورشته،أوبيته الذي
سرق منه في وضح النهار ، ولم يبق في يده غيرمفتاح أرهقه الانتظار، وأعياه الأمل ليوم تشرق فيه شمس الحق والحرية ، وينصفه التاريخ بعدما خذلته وعودالمجتمع الدولي بتحقيق العدالة واسترجاع الأرض...كيف لا ينتفض و لا يحمل الحجارة ؟ كيف لا يثور ولا يقاوم ؟ ؟
وعادت ذاكرتي يوم توقفت أبكي مع "صفية" في رواية "عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني حين وقفت وجها لوجه مع المحتل في قلب بيتها الذي كان لا يزال كل ركن فيه يشهد لها بحقها فيه ! حتى الوردات الخمس التي وضعتها بالمزهرية منذ عشرين سنة كانت ما تزال هناك ، حتى أثاث البيت والستائر والصور واللوحات ، كانت ما تزال على الجدران تبكي الغياب والتهجير... بل حتى ابنها "خلدون " سرقوه منها وغيروا له الإسم والهوية...
ما أبشع الاحتلال..وما أقبح وجهه المخيف المرعب!
انتابني شعور بالحزن ورغبة في البكاءوأناأملأ تلك الاستمارة:
اسمي الشخصي والعائلي ، رقم جواز السفر وعنوان إقامتي، و..و..و..
المعبر ضيق... ومحاط بالأسلاك والحواجز ورجال الأمن ...
المعبر ضيق كأنه سجن أو زنزانة، أكاد أختنق ! و أود لو أصرخ بأعلى صوتي: لا...! لا ...!
وأنا أرى نساء ورجالا يعبرون
في صمت تحت لهيب شمس محرقة ، يلهثون من الحر والتعب ، يتدافعون و وجوههم تلامس الأرض، وعلى ظهورهم يحملون سلعهم وأشياءهم الثقيلة جدا ...
أتراهم يحسون مثلي بنفس المرارة التي أتجرعها في هذه اللحظات التي تمر على قلبي أثقل مما يحملون ؟
وأكاد أختنق ...
وكأن عقارب الساعة توقفت لتشكو لي ثقل الزمن عليها ، ورغبتها في الرجوع الى الوراء، لعل التاريخ يعيد الحق إلى أهله ...
ووقفت أنتظر... وقد تعبت قدماي و أرهقني الوقوف والإنتظار...
والأمر من ذلك ، من ذاك الإنتظار ، هي النظرة المستفزة لذاك الشرطي الإسباني ، غير آبه بصرخة الغضب الصامت التي كانت تدوي كالعاصفة في أعماقي !! هل كان يجب أن ينظر إلى وجهي ليتأكد من
هويتي ؟ "أنا" ،أنا ابنة الدا.....ر !! وهو "الغريب " المحتل لأرضي ؟
تلك التي أراها أمامي هي " سبتة" سبتة السليبة ! أرضي وجزء لا يتجزأ من وطني الغالي ...
الكاتبة المغربية : الزهرة الحميمدي