خيال السنين
جلس الشيخ حسن العجوز في شرفة شقته الضيقة في إحدى ضواحي لندن المدينة البعيدة. برد الغربة كان يتسرب إلى عظامه كما تسربت السنين من بين يديه،
سنين اغتراب لم يعد يعرف إن كانت منفاه الاختياري أم سجنه الأبدي.
كان يراقب المارة بعيون غارقة في تجاعيد الزمن،
عيون لم تعد ترى الحاضر،
بل تبحث في الوجوه عن ظلّ من حارته في اللّد(مدينة فلسطينيه)
عن صدى أصوات الصبا في سوقها القديم، عن خطوات أمه حين كانت تشتري الخبز الساخن من فرن الحارة.
مدّ يده المرتعشة إلى صورة قديمة موضوعة في إطار خشبي باهت،
فيها بيت صغير تحيطه نبتة الصبار وأشجار الليمون والزيتون،
بيت هُجّر منه قسرًا،
وما زال مفتاحه معلقًا في عنقه كأنما يثقل روحه بذاكرة لا تنطفئ.
تذكر إخوته الذين تفرّقوا،
بعضهم ضاع في المنافي،
وبعضهم حمل تراب الوطن إلى قبره.
تذكر زوجته التي غادرت هذه الدنيا وهي تردد في أذنه:
سنعود،
حتى لو بعد مئة عام.
لكن الأعوام مضت،
والعودة بقيت حلما يطارده في كل ليلة.
أخذ رشفة من قهوته السوداء،
فغصّ بها،
وأحسّ أن
الموت في الغربة أهون من حياة بلا وطن.
رفع رأسه إلى السماء وقال:
يا الله،
لا تجعل موتي بعيدًا عن تراب اللّد،
ولا تدع غربة السنين تُغلق أبواب العودة.
غفت عيناه على مقعده،
وبقي صوته يتردد في المكان كأنما يهمس للعابرين:
الموت في الغربة أصعب ما يكون...
لكن الحياة بلا وطن أصعب وأقسى.
سالم حسن غنيم
حكّواتي الوجدان الشعبي
رواية..خيال السنين