. * الوَترُ الخَامِسُ عَشَرَ *
عِندَمَّا تَحسُّ أَنَّ النَّفْسَ قَد جَفَّتْ فِيهَا العُرُوقُ ويَبِسَ عُودُهَا وأَنَّ الجَدبَ يُحَاصِرُهَا زَحفًا مِنْ كُلِّ صَوبٍ ويَسْكُنُهَا الهُزَالُ وعَلَىٰ بَعضِهَا تَتَسَاقَطُ مِنْ ضُمُورٍ يَعتَصِرُهَا بِقَسْوَةِ التَّصَحُّرِ لِٱفْتِقَارٍ عَاطِفِيٍّ وإِمْلَاقٍ فِي الشُّعُورِ وٱنْطِفَاءِ وِجْدَانِيٍّ، آنَذَاكَ الحَرِيُّ أَنْ تَروِيَهَا بِرَحِيقِ خَمرِ المُوسِيقَى المُعتَّقِ فِي أَجْرَانِ مَسَرَّةِ الحَيَاةِ، فَمَا الأَنْغَامُ الحُلْوَةُ إِلَّا بَلْسَمًا يَشْفِيهَا لِٱزْدِهَارِهَا فِي حَدَائِقِ النُّورِ حَيْثُ تَنْبَعِثُ مِنْ وِجْدَانِهَا فُيُوضُ الجَمَالِ السَّرمَدِيِّ لتمضِي بِك قُدمًا عَلىٰ بِسَاطِ أجْنِحَةِ مَا فِيك مِنْ تَجَلِّي رُوَاءٍ أَبدِيٍّ نَحوَ مَدارِجِ عَليَاءِ أبْهَىٰ الأَنْوَارِ وسُرُورِ أيْمَنِ الهَنَاءِ.
كَذَا المَعرِفَةُ الحَيَّةُ تَصِيرُ لِفَضَاءَاتِ العَقْلِ طَيِّعَةً تَكْشِفُ أَسْرَارَ تَأْوِيلَاتِهَا وعَارِيَةً عَلَىٰ شَاطِئِ الحَيَاةِ قُدَّامَ كُلِّ صَادِقٍ لَبِيبٍ يَحتَضِنُهَا طَاوِيًا فِي صَيْرُورَةِ الوُجُودِ حَيَوَاتٍ كَثِيرَةً لِحَافِظَةِ الأَبَدِيَّةِ، وبِكَذَا تَتَوَالَدُ النَّفْسُ عَلَىٰ مَسَالِكِ اليَقَظَةِ بِأَجْنِحَةِ العُرُوجِ نَحوَ مَقَامِ قُدسِهَا ٱلإِنْسِيِّ حَيْثُ خَلَاصُهَا بِأَتَمِّ الكَمَالَاتِ لِلسُّكْبَةِ الكُلِّيَّةِ فِي جَوهَرِ ذَاتِهَا أَنْ أيْنَاهُ الظِّلُّ وأَيْنَاهُ الخَيْتَعُورُ، كَرَّاتٌ لِكُلِّ ذِي ذَكَاءٍ لِٱسْتِيقَاظٍ تَكْرُهَا نَفْسُهُ لِكُلِّ فَتْرَةٍ تَدُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ كُلَّمَا زَادَتْ لِحَافِظَتِهَا مِنْ كَرَّةٍ نَفَضَتْ بَعضًا مِنْ أَدرَانِ جَهْلِهَا فَٱزْدَادَتْ حُسْنَ عِلْمٍ فِي بَهَاءِ مَعرِفَةٍ وصَارَتْ أَكْثَرَ ٱسْتِعدَادًا لِلرَّحِيلِ فِي شِرَاعِ المَجْهُولِ عَبْرَ ضَبَابِ الإِشْرَاقِ فَمَا اليَقِظُ الحَيُّ كَالغَافِلِ المَيْتِ.
أَلآ بِذَلِكُمْ يَصِيرُ بَلْسَمُ ٱلٱرتِقَاءِ فِي يَمِينِ النَّفْسِ عَلَىٰ كُلِّ نَقصٍ، وكَذَا غَيْرَ مُلْتَفِتَةٍ لِظِلَالِ الفَنَاءِ الَّتِي فِي مُخَيِّلَتِهَا بِقَوَارِعِ الأَظَانِينِ تَمُورُ، كَأَيِّنٍ مِنْ شَجَرَةٍ عَظِيمَةٍ كُلَّمَا تَيَابَسَتْ فِيهَا الأَعوُدُ تَبَثَّقَتْ عَنْ غَضِيضِ العَسَالِيجِ وبَعَثَتْ فِيهَا نَسْغًا يَنْشُرُ فِي أَلْيَافِهَا طَرَاوَةَ الٱيْرِيقَاقِ وبَرعَمَتِ الإِثمَارَ، وكَذَا أَنبَتَتْ أَشْتَالًا مِمَّا تَطْرَحُ مِنْ جَدِيدِ حَيَاةٍ فَمَا لَاتَتِ الأَثْلَامُ مِنْ بَذَارٍ فِيهَا تُلْقِيهَا لِتَتَفَلَّقَ فِي رَحرَاحِ الضِّيَاءِ، وكَذَا كَشَمْسٍ بَدَأَتْ فِي ٱلٱنتِشَارِ مِنْ سَدِيمِهَا تَتَوَالَدُ شُمُوسًا فِي أَنْحَاءِ الفَضَاءِ والَّتِي بِدَورِهَا تَنْبَثِقُ مِنْهَا شُمُوسٌ كَصَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وهَلْ يُنَبِّئُ عَنْ هَذَا التَّحَدِّي فِي البَقَاءِ مِثْلُ عَنْدَلِيبٍ يَشْدُو ويَخْلُقُ مِنْ لَحنِهِ ومِمَّا يُحِسُّ وعَلَىٰ تَوَالِي إِيقَاعَاتِ تَغَارِيدِهِ خَلْقًا مُتَجَدِّدًا عَظِيمَ الإِبْدَاعِ، ذَلِكُمُ سَاجِلُ السَّبْقِ يَتَوَزَّعُ مِنْ مَجْمُوعَاتِ أَلْحَانٍ لِٱفْتِتَاحِيَّةِ اليَقَظَةِ الكَامِلَةِ تَعِيهَا لِعُلُوِّ فَهْمٍ نَفْسٌ أَفْلَتَتْ مِنْ قَبْضَةِ الطَّوَائِعِ حِينَ لَيْسَ إِلَّا هَابِي التُّرَابِ لِنَعِيمٍ مُرِيعٍ بِمُزْنِ رَيِّ أَنْغَامِ قُبَّةِ الجَمَالِ وَبِأَجْنِحَةٍ حُرَّةٍ مِنْ أَلْحَانِ مَشَارِقِ النُّورِ.
تِلْكُمُ السَّعَادَةُ عُيُونُ السَّلَامِ ودِفْءُ الحُبِّ فِي يَقَظَةِ الحَقِّ الغَيْرِ مُؤَوَّلٍ لِأَلْغَازٍ وأزيَاغٍ، دَلَالَةُ مَشِيئَتِكَ يَا أَخِي الإِنْسَانِ دُونَ تَعَصُّبٍ وإِلْحَاقِ ضَرَرٍ فِي حَيَاتِكَ هَذِهِ التي تَحيَاهَا، ومِنْ ثَمَّ كُنْ عَلَىٰ مَا تَشَاءُ إنْ كُنتَ أنت عَلىٰ مَحقلتِك القَائِمُ المَوجُودُ، فَلَا تَغْفُلْ عَنِ المُوسِيقَىٰ حَبِيبَتِك الدُّرِّيَّةَ البَهِيَّةَ أَنْ يُشْنَفَ لَهَا السَّمْعُ حِينَ تَجَلِّيَاتِ العِشْقِ وكُنْ وإِيَّاهَا بِلَا أَسْمَالٍ بَالِيَةٍ وَفِي بَاهِرِ العَرَاءِ.
حَرِّرُوا فُنُونَ المُوسِيقَىٰ مِنْ رِبْقَةِ كُلِّ قَيْدٍ لِٱنْشِرَاحِ رُوحِهَا وٱجْعَلُوهَا بِٱشْتِهَاءِ المَحَبَّةِ فِي مُهَجِ قُلُوبِكُمْ تَهْدِي إِلَىٰ مِرقَاةِ الحَقِّ لِتَصِيرُوا فِي رَابِيَةِ نِعمَةِ الجَمَالِ، وٱجْعَلُوهَا عَلَى شِفَاهِ نُطْقِكُمْ إِذْ أَنَّ ذِروَةَ تَجَلِّيهَا حِينَ كَلِمَاتِكُمْ بِأُصُولِ تَآلُفِ إِيقَاعَاتِهَا تَنْطِقُونَ، وهَلْ فَيْضُ كُلِّ إِبْدَاعِ فَنٍّ إِلَّا مِنَ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ حِينَ تُجَنِّحُ سَامِيةٌ أَوْ تَتَّحِدُ فِي رَوَائِعِ الجَمَالِ.
أَلَا كُونُوا فِي فَضَاءِ سَلَالِمِ صَوتِهَا الحُرِّ لِتَقْبَلَ كُلَّ حَقِيقَةٍ لِتَرتَقُونَ، فَلَئِنْ تَفْعَلُوا البَاطِلَ ومَا يَضِجُّ عَلَيْكُمْ مِنْ قَوَاصِفِ أَضَالِيلَ تَزْهَقُونَ، وكُلَّمَا تَكَسَّرَتْ فِي أَيْدِيكُمْ مَجَادِيفُ صَارَ مِنْهَا لِأَيْدِيكُمْ مَجَادِيفُ أَمتَنُ قُوَّةً لِبُلُوغِ شَوَاطِئِ الأَمَانِ، لِأَنَّ مِنَ المُوسِيقَىٰ الطَّاقَةَ الحَيَوِيَّةَ الفَعَّالَةَ الَّتِي تَحتَاجُهَا النَّفْسُ لِمَزِيدٍ مِنَ التَّدَفُّقِ فِي مَوَاقِدِ الإِرَادَةِ لِفَضَاءِ المَعرِفَةِ الرَّحبِ ولِبِسَاطِ الفِعلِ المَدِيدِ لِأَجْنِحَةِ أَتقَنِ المَهَارَةِ فِي التَّحلِيقِ ولِمَوَاسِمَ أَكْثَرَ حَصَادًا وإِثْمَارًا.
كَأَنَّمَا المُوسِيقَىٰ هِيَ الفُرصَةُ الَّتِي تُبَدِّدُ الحُزْنَ لِأَنَّ الحُزْنَ بَيْنَ يَدَيْهَا مِثْلُ ظِلٍّ يَمُرُّ مِنْ سَحَابٍ رَقِيقٍ مَا أَنْ يَمْكُثَ مُسْتَلْقِيًا حَتَّىٰ يَزُولَ، وكَذَا رِقَّةُ أَنغَامِهَا عَلَىٰ الشُّعُورِ المُتَفَتِّحِ عَلَىٰ رُوحِهَا تُحيِي الأَمَلَ الَّذِي يَحُلُّ مَكَانَ اليَأْسِ، إِذْ يُرْبِحُ المَحبُورُ فِي صَابِغِ أَلْوَانِهَا الزَّاهِيَةِ تَجَدُّدَ بَوَاعِثِ الفَرَحِ لِحَيَاةٍ تَتَأَلَّقُ فِي السَّعَادَةِ بَدَلَ الكَمَدِ الَّذِي يُجَرجِرُ مُتبِعِيهِ إِلَى هَالِكَةِ الظُّلُمَاتِ.
ومِنْهَا المُوسِيقَا الثَّبَاتُ عَلَىٰ دُرُبِ الصِّدْقِ لِلتَّقَدُّمِ نَحوَ كُلِّ حَقٍّ أزْهَرٍ، لِأَنَّ لِسَانَ المُوسِيقَىٰ النَّبِيلَةِ مَيْنا لَا يَعرِفُ، ومِنْهَا تَسْتَقِي العَزِيمَةَ الٱنتِصَابَ، ومِنْهَا بَصَائِرُ بَيِّنَاتٌ لِسَبِيلِ الفَلَاحِ، فَأَوْلَىٰ إِذْ هِيَ مُنَقَّاةٌ مِنَ الشَّوَائِبِ لِلنَّفْسِ كَمَا اليَنَابِيعُ العَذْبَةُ مِنْ نَدفِ أَكُفِّ الثَّلْجِ المُتَسَاقِطِ عَلىٰ جَبْهَةِ الأَعَالِي وخَدِّ السُّهُوبِ.
المُوسِيقَىٰ تُسَاعِدُ عَلَى التَّغْيِيرِ حِينَ يَكُونُ هُنَالِكَ ٱسْتِعدَادٌ لِذَلِكَ لَا تَلتهُ زَاهِيَةُ المَحَبَّةِ مِن لُبِّ سِرَاجِ الإرَادَةِ ولَا يَلتهُ نُبْلُ الذَّكَاءِ، ولَكِنِ الَّذِي أَدمَنَ العُبُودَةَ عَبَثًا أَنْ يُسْتَنْبَتَ لَهُ جَنَاحَيْنِ، وكَذَا الَّذِي تَمَاهَىٰ فِي البَاطِلِ عَنْ عِلْمٍ ورَغْبَةٍ عَبَثًا أَنْ يُعَانِقَ الحَقَّ.
إِنَّ لِلْمُوسِيقَىٰ صَفَاءُ تَأْثِيرَاتٍ عَمِيقَةُ التَّولُّهِ تَسرِي أنغامُهَا فِي أْثِيرِ كُلِّ نَقَاءِ مُهجَّةٍ فَٱفْتَحُوا قُلُوبَكُمْ لِمَحَبَّتِهَا تَنْشُر فِي أروَاحكُمُ حَقِيقَةَ الفَرَادِيس.
من كتاب الموسيقى لمؤلفه :
المهندس أبو أكبر فتحي فايز الخريشا
( آدم )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق