أحلام أنثى
الحلقة 27
وفاة أبو سحر
تابعت سحر تقول: تلك الليلة نمت أنا في المستشفى على كرسي بجانب أبي، وأمي على سرير إضافي في الغرفة... ولم يحدث شيء ملفتًا للخوف، في الصباح نهضنا أنا وأمي، كان والدي صاحياً، لكن وجهه أصفر، وكنا ننتظر الطبيب لمعاينة أخيرة حتى يسمح لنا بمغادرة المشفى، لكن عندما نهض والدي من السرير، تقيأ دماً وسقط مغمى عليه في أرض الغرفة... وركضت أنا إلى الطبيب المناوب، الذي طلب نقل والدي إلى العناية المشددة. وأجروا له فحص خضاب، وقالوا هناك نزيف حاد أظنه في المعدة...
وعلقوا له كيس دم وطلبوا كيسا آخر، كان النزيف شديدا، وقرروا عمل جراحي فوري، وركضت أنا إلى الأب ميشيل وطلبت منه الحضور السريع، واتصلت مع هدي، جاءت مسرعة هي وصهري...
منعوا الأب ميشيل من دخول غرفة العمليات، لكن الراهبات تدخلن بالأمر وألبسوه ثيابا خضراء وحذاء أبيض أحضروها من غرفة التعقيم وكذلك لبست أنا ثيابا معقمة، عرف أبونا أنها حالة احتضار، وصلى له وناوله من الخبز المقدس، وترقرقت الدموع في عينيه، نظر إلينا الطبيب وقال الله يرحمه.
قال أبونا لترقد روحه في سلام، أنا استيقظت وجدت نفسي في غرفة وبجانبي ممرضة قالت أغمي عليك، الحمد على السلامة، العوض بسلامتك...
أدخلوا أبي في البراد، وذهب صهري مع أبونا حتى يرتبوا مراسم الجنازة والدفن ويطبعوا أوراق النعوة، ويرتبوا مواعيد استقبال المعزين...
ودموعنا أنا وأختي وأمي أبت أن تتوقف... وغطسنا في الثياب السوداء... لقد رحل أبي وأخذ الفرح معه...وحل مكانه البكاء والحزن...
تحدد يوم العزاء ثلاثة أيام في قاعة الكنيسة عند أبونا ميشيل والذي نشعر به عمًا لنا، وليس فقط أب راعي كنيستنا...
وقفنا أنا وأمي وأختي ولويس صهري عند مدخل القاعة نستقبل الناس الذين وفدوا علينا بأعداد كبيرة، طبعا والدي ووالدتي كانا معلمين لسنوات طويلة، والذين حضروا حتى يعزونا كانوا زملاء أهلي وربما من طلابهم وصاروا زملاء لهم في التعليم، وكذلك أصدقاء صهري وأختي وهم عديدون أيضا...
لم أكن أنا أعرف الكثيرين، لكن تفاجأت بحضور زملائي وزميلاتي موظفي المطار في دمشق، وكان معهم دلع وزوجها وزميلاتي المضيفات في الطائرة، ولا أعرف لماذا كنت أنتظر سليم، لكنه لم يأتِ مع الموظفين، قلت ربما هو في رحلة لا يستطيع الحضور، لكن تساءلت معاونه هنا هو ودلع، ماذا يعني ذلك، وعرفت الجواب عندما جاء سليم هو ووالدته، وقامت والدته بتقبيلي وتقبيل أمي وأختي...
طلبت أم سليم من ابنها الوقوف معنا لتقبل التعازي وقالت سليم هو أخ إلى سحر في كل الأحوال... وكذلك أبونا ميشيل كان يحضر ويغيب...
مضت الأيام الثلاثة... أختي رجعت إلى دارها، وبقيت أنا وأمي وأحزاننا في المنزل...
كانت أمي تصلي وتقول لتكن مشيئتك يا رب...
حزنا، حتى الحزن حزن علينا، وحزنت معنا الدار والشجر والوردات التي كان والدي يدور عليها كل يوم يصبحها ويمسيها، ويمسح ورقاتها بلمساته الحنونة... ورفعت أمي طاولة الزهر فوق الخزانة، وقالت لقد حبست حالك وحبستنا معك في خانة اليك الأبدية يا أبو سحر يا غالي...
كانت هدى تأتي إلينا والدموع تغرق عينيها ولكنها صامتة لا تتكلم، كأنها وجدت في الصمت أبلغ الكلام، وأفصح التعبير...
خابروني من باريس يسألون عني وعن والدي... وكم تأسفوا عندما أخبرتهم أخبارنا...
عندما سألوني متى تعودين إلى العمل؟ قلت لم يعد في امكاني العمل بعيدا عن دمشق، أمي وحيدة لا يمكنني تركها بمفردها...
قالوا هل ستعودين إلى العمل على الطائرات السورية؟
قلت لا أدري بعد...
في الحقيقة، أنا أفكر في شراء شقة سكنية صغيرة حديثة لي ولأمي، وأحول دارنا العربية الواسعة إلى معهد لغات وربما موسيقى...
عندما فاتحت أمي بأفكاري، قالت لي يعز عليّ ترك هذا البيت فيه كل ذكرياتي، بل كل حياتي... لكن كونك ستتخلين عن عملك في الجو، هذا يسعدني، اِفعلي ما شئت أنا لست مطولة على هذه الأرض لقد اشتقت إلى أبيكِ...
أبكتني هذه الكلمات وفتحت أحزاني من جديد، لكن يا أمي كلنا اشتقنا إلى والدي، لكن هذه مشيئة الله، وليس لنا اعتراض على مشيئته...
وفعلا طلبت من سمسار البيوت أن يرشدني إلى شقة تدخلها الشمس الشتوية وتغيب عنها في الصيف...
ووجدنا شقة في منطقة الزبلطاني القريبة من باب توما، أعجبتني وأعجبت أمي، اشتريتها واشتريت فرشا مناسبا جديدا وأعطينا جميع المفروشات القديمة، عدا البيانو، إلى دار العجزة ليتصرفوا فيها...
هدى حاولت أن تعطيني مبلغا من المال، رفضت وقلت لها أنت ستساعدينني في الرخص اللازمة لفتح معهد لغات، يكفيك أنت أم ستة أولاد، حملك ثقيل...
انتقلنا أنا وأمي إلى سكننا الجديد، وبدأت إعادة الترميم في بيتنا القديم.
تفاجأت عندما هاتفني سليم وقال: سآتي لزيارتكم هذا المساء...
الحلقات السابقة موجودة في (مجموعة أحلام أنثى)
بقلم الكاتب: عبده داود
إلى اللقاء في الحلقة 28