* نِعْمَةُ الحَيَاةِ *
ثمّ تقدمت امرأة نـاهـدة يشبهُها ربيع الطّبِيعَة وبِمَسَرَّة الحَيَاة قائلة :
لولا لنا أيهٍ يَا آدم الصَّديق نعمة للحياة من وحي نغمة الموسيقىٰ لمَّا أفق شروق النفس المطمئنة يصير لدفءِ قلوبنا ألفة محبّة وقربىٰ.
لحظات طوف آدم متأملا الجمهور ومهاد الرّابية، ثمّ نظر من عليائِهِ ٱمتداد السُّهُول والقرىٰ المتناثرة وخضرة الحقولِ وأشجار البساتينِ وصفاءَ البحيرةِ وأسراب الطيور المجنحة في الفضاءِ، ثمَّ نظر الجبال المترامية قدَّامهُ فإذا السَّحائبُ المُتناثرة تتشحُ بعض قمّمها لما دونها بمرور الهوينة لكأنها عروس في ليلةِ زفافها، وبعد أنْ غمرَ الجمهور بنظراتِ المحبَّةِ أردف منشدا :
ٱسْمَعُوا أيُّها الأحبّةُ أنشودة لبّ الموسيقىٰ من فيضِ النّفسِ المُطمئنةِ الحُرّةِ لمّا ضِيَاءُ المحبةِ على النّاس أجمعين نعمة للحياة.
إنَّ الحبيبة العاشقة حبيبها نعمة للحياةِ كما الموسيقىٰ الحرّة هبةُ الحقِّ الأعلىٰ للإنسَان ..
إنَّهَا الحبيبة حديقة المُتأمِّل حين يتعتق كأس كرمة الفكر في صفاءِ النورِ ..
فإيه يا أيتها الحديقة الجميلة المسورة بأهدابِ الحبيبةِ ..
مسكون أنا فيك تجليًّا لكُلِّ سُمُوِّ ظهورٍ وتسكنين أنتِ دمي سِحرًا لبهاءِ كلِّ جمالٍ ..
اشتعالاََ أشتعلُ فيك كعودِ الطيب ..
وإيهٍ أيَّتها النّفسُ المطمئنةُ التي تسري فيكِ إنْتِشاءً أعظمُ ألحانِ الطبيعةِ ومَا ورَاؤهَا من مخبآتِ العالم التي تفيضُ من أوتارِ الحُسنِ ..
ٱشتعالا أشتعلُ برُواءِ المحبَّةِ من مَلامحِ وجهك الوضاء المتألق بالإشراقِ النّورانِيِّ وأسرارِ فِتنةِ كلِّ أخيلةٍ وخيالٍ ..
وآهٍ من ملامح وجهك كيف تأخذني لعوالِم بعيدةٍ بِأجْنِحَةِ الحِكْمَةِ النوراءِ وأشرعة التَّأمُّلِ العميق ..
تقودني بلهفةٍ لمعرفة ما لم أشاهد من قبل على هالةِ أهدابِ عينيكِ إلى ما لا كنت أعلم من محبوكِ رقمٍ ونسج حرفٍ على صفحةِ أبلجِ الضِّياءِ ..
وتدهشني إبتسامكِ المفعمة بِبَهجاتِ رطيبِ الفرحِ التي منها يتقطرُ سِحرُ صبُوحةِ الإشْرَاق من نضارةِ الوُجُودِ ..
نغمة يا أنتِ منكِ تطوي فِي جَوْهَرِهَا سَنِيّ الكون ..
تطوي الأكْوَان حيث ٱتسعاعها لبصيرة جليّ النظر ..
أحمل مصباحي مهتديا على بساطِ مورِ الهائِمةِ أبحثُ من خلال آيات حُسن ملاحةِ ملامحك عن كلِّ سرٍّ مُخَبءٍ ودَفِينٍ..
أجد كلّ العَوالِم تتهادىٰ في عينيك وتسكن الرَّوقة وَجْنتِيك ..
أجد نفسي تضطجع متّكئة على وِسادةِ النّورِ حيث صدرك المُتنهد بالنَّارِ والنُّورِ ترنو اليكِ كأنّها أطيافٌ تُراقصُها الأمواجُ حبورًا بملامسةِ رِيَاضِ شَعركِ الملتف كتهدلِ أغصانِ شجرةِ الحياةِ ..
وفي عمق قلبي بين فرحٍ غامرٍ وحزنٍ غريبٍ لا أدري إلّا والرّغبة العارمة تأخذني للاِمْتِزاج فيكِ بعمقِ عناقٍ أبديًّ ..
فإيهٍ أيَّتُهَا النَّغمةُ الحُرّةُ المُتقطرةُ من كُرُومِ النَّفْسِ المُطمئِنة شِفاءً للُبِّ قلبٍ وما يرنو لحقيقةِ عِفَاءٍ..
أفتّش في ملامحِ وجهك ..
أفتش عن ماهيةِ السِّرِّ الأعظمِ فأجدني أنا سِيّ خيالٍ تعلق على مذبح هيكل العشقِ السَّرمدِيِّ الذي يدور كما الفراشة حول زهرة نبتت بين نهديك يُغذيها شذا عطر بساتين الرُّوح ..
أفتش لمَّا الرّياح تغني مع الشَّجر أغاني الشمس والمطر فأجدني ثملا في حُبّكِ وعاشقا ذو وَجدٍ وهيام .. أجد أسرارك المرسومة على جبهة النور فأدور حولك كما النحل حول الزهور .. إيهٍ .. شيئا ما بمحبَّةِ تشوّقٍ يعيدني إليك كلما همَّمتُ لرنوٍ كأنني للوهلةِ الأوّلىٰ أنظر طوباءَ طلاسمٍ من بعد التّرنحِ متيمًا للتخيم فوق كأسِ هواك .. ثمّ إذ مَا ٱنتشت رُوح السَّماعة أجدك بحكمة تسبيحة المُهجة يقين تجلي فوق كُلِّ سرابٍ ضَلالٍ .. بَلْ أنتِ حُقّة الوِجهة مِنْ وحيك أبصار جليلة الوجوِد بحبرةِ الحياةِ .. أنت أجْنِحة لذةِ المَعْرفة ومسرة المَحبَّة ونعمة الخَيْر وأمنة السَّلام .. أنتِ لغز الأحجيّة المُحبب خلف أفق العتمة الذي يتلذذ حيرتهُ فيكِ العقلُ، لأنَّ ذلك يجعلهُ لا يكُفّكِ التفكير بتأمُّلِ الكشفِ المدهشِ كلّما خطوة نحوك تقدم .. فيَا لكِ من مدهشةٍ على صراطِ التّحررِ لمستقر الحرية .. أنْتِ نفسٌ مُطمئنة لمقامِ الفُؤادِ تثريه بِدفءِ الألفةِ ونشوةِ المحبَّةِ وأنس القربَىٰ .. أنتِ تطواف المتأمل لمَّا ترتل السّماءُ أسرارها من كُنْهِ ألطاف طاقة الحياة حين ليس إلا السُّكُون بِسحر أبهىٰ الٱنبعاث .. وأنتِ اللغة حين تنشد تلال المرتفعاتِ وحقول السّهول وأشجار البَساتين وأمواج البحيرة وتألق الأنوار وأسراب الطيور المجنحة في الفضاء أغاني العشق والخير والحرية والجمال .. مسكونة أنتِ بالأسرار .. ليست مغامرة مطاردة خَرَزات سبحتك للعقد الأبهىٰ .. لأنَّ تتبع سُبُلكِ الجميلة غاية الهُدَىٰ للكمال ..
إيه أيَّتُهَا النعمة النورانِيَّة منك تجليات الموسيقا العذبة الجميلة لنهضة اليقظةِ من قلبِ بذرةِ الوجودِ لزاهر الحياة ..
أيّتُهَا المُطمَئِنَةُ الحرَّةُ ..
إن اِشتياقي لكِ لا يُدانِيه اِشتِياق .. أشتاقُ لكِ وأنتِ أمامي أضُمك بسمع بصيرتي .. شوقي إليك أبدا لا يكفُّ عن ديمومةِ العناق .. وَهج من النّور أخضر لا يحرق ينبعث منك بشغف إيمان ملتهب .. أنغامك كهالاتِ تمام القمر لسِحرِ الأفق لمَّا تتوشح الضياءاتُ سحائِبَ السَّماءِ لحدائق الإبداع.. كلٌّ منها بعوالمٍ فائقة فيض الإشراق ..
ألآ إنَّ هيبة إنشادك النَّاطق بسخاء الفِطنة وخَيْر الحِكْمَة تخاطر أرواح الفجر والمساء .. كلامك العذب تراتيل المحبّة فليس لي مجالا إلّا أن ألوذ بجلال التأمل المُسكر فيكِ بِشغفٍ مفتون ..
احترتُ في جاذبيتك السَّاحرة حيرة تكاد تنحر قلبي من لهفة وَجدٍ على مذبح فتون الجمال ..
أنت اللحظة المتوالدة زمنا فيها كل الفرح الممكن في العالم لعرس الوجود..
لحظة تجمع كلَّ مسرات وأحزان الحياة للهفة العاطفة ألّا بعدها من أفول ..
فيها أحيا وأموت ألف معرفة بحقيقة الوصل والوصول ..
أحتوي الوجود بين النبضة والنبضة بدفء العناق .. وفي ذات النبضة انبعاث كلّ نُور لغاية نبل التعبير ..
ألآ إنّكِ القبلةُ التي تهوي إليهَا أفئدةُ المُستضعَفِينَ والهرمُ المرتفعُ الذي يتدرجهُ لخلوةِ الاِحتِراقِ العَاشِقونَ .. تطوفُ حولكِ حبيبتي كلُّ طيُورِ الفضاءِ وفراشات الحُقُول ونحل البَساتِين .. أمامكِ ودون حاجبِ طرفِك تسجدُ في حبورٍ مهيبٍ الأخْيِلةُ المُتجولة بأجنُحِ الأفاقِ على مدى أيٍّ من ترحال.. وإنَّ الغاباتَ كما الصَّحارىٰ والسُّهُول والبحار بمَا فيها متألقة تحمدك لفوق غايتها لنيل القربىٰ بين يديك للإزدهار ..
ألآ إنَّها تشكرُ النعماء بعرفانٍ أكيدٍ ..
إيهٍ يا حبيبتي ..
يا لغة العالم الأكيدة الفائقة الإتفاق والوفاق ..
يَا كلّ فرح العَالم ..
يا كُلُّ حزن العالم ..
أيّتها الحديقة الجميلة ..
لعلّي عن الرُّؤْيا مستيقظ .. بل أنا لمّا وإيَّاكِ لفِي يقظة إن كنت في حلم أو صحو.. فكيف كلّ هذا الكمال قدّامي ولا أكون مُنتبها عن أخاديعِِ ليقين .. فها أنا ذا موجود.. كنت أجد السّير حثيثا منذ أزمنة مضت نحوك .. أبحث عنك في كلّ مكان وعلى توالي الزمان في كُلِّ لبِّ خفقةٍ فدائِمًا أجدكِ حبيبة تهشُّ على أغنامها في الدُّروبِ بين الحقولِ .. صبيبة غيداء تداعب الأزهار .. شابة حكيمة متألقة يزدان بها عرش الجمال على الوجود .. قمراء متوهجة بإعجاب المحبّة ورونق الصفاء.. امرأة نـاهـدة يشبهها شبوب ربيع الطبيعة المفعم بمسرّة الحياة ..
كنت أجدك على شرفات القصور أو تطلين من كوّات الأكواخ فوق قمم الجبال وأكتاف الوديان ..
كنتُ أبحث عنك في ملامح وجوهِ ونسائِمِ أرواحِ كلَّ الصَّبَايا الجميلاتِ العابقاتِ بِأريج الزّهور والمُتزيناتِ بأوشحةِ الطبيعةِ وكحل المساء ..
وها أنا موجود أجدك حقيقة قدّامي تشعل في نفسي حبور الحياة ونور الوجود ..
تجعليني حقيقة أكيدة فوق الدّهور ..
فإيهٍ يا أيَّتُهَا الحبيبة أنتِ هي المعشوقة ..
إيهٍ يا نغمتي الفريدة .. يا أيّتها الروضة الجميلة ..
يا سيدة جمال العَالم .. وبهاء قبَّة الأرض ..
أيّتها المنبعثة من لبّ قلب الجمال محبة وسلاماً ..
فيك خشوع الفؤاد في هيبة وسجود دون تهويم في ظلمة مجهول ..
فيك إيمان الصَّادق يقينا على الشاهد دون إنكار حقّ الظنّ ليستوي حَقّ كُلِّ أمرٍ في الميزان ..
منك جلال فيض الفتوحات استنهاضا للعقل ألّا في سُباتٍ طويلٍ عميقٍ يغيب.. يبعث حياة كُنه وَعي التنوير الحقّ الذي ليس وراء خليط من الدَّجلِ والخرافات بل في مشرق ضياءِ الإِنسِيَّةِ حيث الإنسان هو القائم القيُّوم ..
يا لشعرك كالليل السّرمديّ ..
يَا لهُ لمَّا يخضب كموج البحر في أوَّلِ المساءِ حين عليهِ ٱكتمال القمر من فائِقِ ألوان الرُّوَاء ..
يا لجبهتِكِ مطلع للشمس والقمر .. ومشرق كلِّ أمل وٱنتصار ..
يا لحاجبيك قوسان من عميمِ خيرٍ وغبطة فرح ..
قبتان تظلّلان وبشموخٍ عِوالِم قدسيّة ذوات ظلّ ظلال وجذب سحريّ .. حاجباك قبتان من العشق والهيام يَستظلُّ بهما الحِجرُ والرُّوعُ ويستظل بهما يقظة الفكر وغفوة الخيال ..
يا لأجفانك المقوسة ذات الرُّموش الهدباء حين تتموج على بعضِها البعض برفق حنان، كأني من طارفتك حين تطرف بعوالم مجرات تُظهِرُ بضياءٍ أكوانَ النورِ ثم ما تلبث تخفيها في سديمٍ بهيجٍ وهكذا دواليك بين تلاشي واِنبِعاث ..
عيناك فيهما التكوين الجَلِيل الذي على مهلٍ ينبثقُ إبداعًا رائعا ولا أعظم ..
عيناك درتان تشرقان برُؤْيَةِ الصِّدقِ كشمسين سَاطِعتين لأبلج نهار ..
عيناك مجرتان تلوحان بقوّةٍ بألطافِ الضِّياءِ من وسطِ حالِكِ الظلام لعالي كلِّ مقامٍ ..
أنفك جبل شامخ ومنحوت بِيدِ مبدع الفن المهيب ..
شفتاك بمحبَّةٍ وهدوءٍ تأمران فتطاع وتنهـيان فيستجـاب لهما وإذا مَا تلامستا إذاً هُما في تألق الإبهار لِسِحرِ الفتون وصنو إنفراجهما لمهيب نطق أو للهيبِ أسرار العناق .. أحجية لذيذةِ الرَّوِيَّةِ شفتاك .. وهمَا بطعمِ العسلِ وبرائحةِ زهرِ الليمون ..
خداك حبتا دراقٍ ٱنعقد فيهمَا النّضوج ..
هُمَا ولوج لبستانِ الثّمرِ عَلى صَفحةِ السَّماءِ ..
عُنُقك جسر يربط جنات بفراديس .. رمز العظمة لا اِتضاع .. وبرائحةِ عطرِ اليَاسمِين ..
نهداك يميسان بسلطنة التَّجلي ذات اليمين والشمال ودائريّان بفيضِ اِرتشاف الأنوار .. إِنَّهُمَا المحجتان .. قبَّتان ذوات رَيْنة مراوٍ وخضلاء جِنان ..
باطن كفك على راحة يدك أبعاد لا حدود لها ولقاء أعمق من الكينونةِ المُؤثلة الدّوام ..
صدرك كلّ الأمان والرَّاحة ومسرَّة اللِّقاء ..
صدرك نار تذيبُ كلَّ معدن لصفاوةِ صفاءٍ كما أوتار عاشقة الموسيقى تطريبا تذوب فيها الأسماعُ ليقظة التهذيب ..
رانية طرفك ماء صافية النبع لفراديس العاشق لقطف الثمار ورفد الكوثر لتناسخ الورقاء من معاسل العشق ..
كتِفاك سلسلتا جبال تأمهما الأطيار ويسكنهما الرُّهبان ..
بطنك ناعم الملمس كريش النعام ..
ظهرك عروق كرمة وياسمين وريحان .. عناقيد عنب من على أكتافِك تتدلّى وبدائع أزهار ..
جسدك وروحك في صدري ومعا ثلج ونار فكفرٌ ألَّا بنعمة لكُلُكِ أنظر بإمعان ..
فكم أرغب فيك تأمُّلا بِضِمامَةٍ لا مقطوعة بل مستمرة لأبدية ما لها اِنفِصَال ..
أيتها المعشوقة العذبة الدافئة المتوسدة أوتار الألوهية المشدودة بين ظنّ ويقينٍ في جوقةِ أحلامِ الغفوةِ وأمنياتِ اليقظةِ حيث ليس إلا أنتِ على كلِّ تجلّي غالية الغوالي وأثمن كل ثمين ..
يا نغمتي النعمة ويا حبيبتي الحلوة ..
أيّتها المطمئنة الحرة ..
أنت نغمة وألحان كل إبداع عذوبة موسيقى فيها الأمهاج تذوب ..
أنْتِ الحديقة الجميلة وكل الفراديس ..
أنتِ نعمة الحياة والوجود ..
أنتِ أجنحة كل حريَّة وكل أمنة سلام ..
أنتِ نطقُ وقار الطمأنينةِ ورواءُ الجمالِ ..
أنت علوُّ كل علياء رابية تسمو على كل ٱرتفاع ..
أنْتِ يا أيَّتُها الزَّاهِرة الصَّافِيَة ..
مسرتي مَسَرَّة الإِنْسَان الكَامِل المُتأمّل النُّورانِيّ الأسْمَىٰ .. .
من كتاب الإنسان الكامل لمؤلف :
المهندس فتحي الخريشا أبو أكبر
( آدم )