ثكلي من غير موت للشاعره فاديه حسون
ثكلى من غير موت ....
مشبعةً بدموع القهر والإذلال ... حزمت سعادُ حقائب ملابسها وسطَ نحيب أطفالها والتفافهم حولها ممسكين بذيول ثوبها بأصواتهم المنكسرة: ماما أرجوك لاتغادرينا.. فنحن نضيع من دونك.. جثت على ركبتيها واحتوتهم بذراعيها المثخنتين ضربًا وألمًا وهي تجهش بصوتها المخنوق... لكم الله يانبضات القلب فهو حسبكم وحسبي.. تعلثمت شفتاها ..وتعثر لسانها عن الإكمال.. وتولّت عبراتُها إيصال الرسالة الحارقة...
كان جلّادُها جالسا على الأريكة تقطر من وجهه الدميم ملامح الغضب والسادية .. بينما تكتظّ منفضةُ السجائر أمامه بالرماد وأعقاب السجائر المطفأة بنزقٍ شديد... وكثورٍ هائج كرر عبارته القبيحة: اخرجي من منزلي أيتها السافلة ولا تعودي مجددا...
كان وقعُ كلماته المكررة أشبهَ بتوابع زلزال مدمر أجهزَ على البقية الباقية من روحها المتصدّعة....
نهضت متثاقلة واتجهت نحو الباب تجرّ ذيولَ قهرها وخيبتها .... وأمتعتها التي لطالما كانت شاهدًا أبكمَ على ضربها وإذلالها...
أغلقت الباب ببطء وخرجت...
شعرت بأنها أقفلت باب عمرها... بيديها.. صرخت بملء صوتها: رباهّ إني استأمنتك فلذات قلبي...
نزلت أدراج السلّم كطير مقصوص الجناحين... كانت تبحث عن آثارٍ لوقعِ أقدام أطفالها وهم يصعدون ويهبطون مرحًا...
كم من اللهاث أنفقته رِأتاها وهي تحمل حاجات المنزل فوق هذا السلّم .. كم من ابتسامات اللقاء شهدتها هنا حين كان أطفالها يهرعون لملاقاتها أملا في فتح أكياس الشيبس والحلوى التي أحضرتها لهم .. كم مرة تعثرت.. وسقطت..
لاتزال أصوات أطفالها تخرّش غشاءَ طبلها وهم يناشدونها أن تعود... سمعت زئيره ناهِرًا إيّاهم كي يكفوا عن الصراخ .. اعتصر قلبَها صمتُهم المباغت أمام زمجرة الأسد المتوحش... لا شيء يعتمل في أذنيها سوى أنينٌ جماعيٌّ مكبوت.. تخيّلت وجوهَهم المفجوعةَ وقد اعتلاها الذعر... شعرت أن قميص قلبها قد قُّدّ من دُبر... سوّلت لها نفسُها المكلومةُ أن تعود صُعودا للأعلى .. كي تقتل زليخاه الآثمة وتستكين... لكن سرعان ماتراجعت حين تذكرت أن جبروته سوف يسرف في تمزيق القميص... ضغطت ببقايا صبرها على جرحها وتابعت الهبوط.. فقد سئمت رأب صدوع الذل والمهانة... فقدت القدرة على التمييز بين قوتها وضعفها... أصبحت رؤيتها ضبابية... ضبابٌ رمادي يلفُّ كيانَها ويُفقدُها القدرةَ على الابصار.. وانقشعَ ضبابُ روحها فجأة على وجهٍ سمحٍ ينتظرها أمام المبنى بسيارته البسيطة.. فتح ذراعيه ليحتضن قهر ابنته البكر.. ارتمت في حضنه باكية كمن يلوذ تحت مظلة ضخمة في ليل كانوني ماطر مكفهر... ربّتت يدُه الحانية على كتفها وهو يقول: لا عليك ياشمس عمري فسوف ينصفك رب العزة ولو بعد حين.. شعرت للحظة بتقزّم العالم كله في حرم الأبوّة الخرافي...
جلست بجواره وهي تستنشق عبق عرقه الطُّهر وهو يحيطُ كتفيها بذراعه كطوق نجاة .. وتُوقف بيدبها مطر العينين ... ومشت السيارة كأنها تحمل جثمانَ امرأةٍ قضى منها الظلمُ وطرًا... لكن نظرَها كان معلّقًا في تلك النافذة في الأعلى والتي ملأ زجاجَها بخارٌ نفثته أفواهُ أطفالها .. وسجلت ذاكرتها آخر مشهدٍ لثلاثة أطفال بوجوههم الملتصقة على زجاج النافذة وأكفّهم الملوّحة حرمانا وقهرا...
فادية حسون.