""في مَخدعِ الرّوحِ ترقدُ روحٌ أخرى "
اعتادَ كُلّ مساءٍ أنْ يُمسكَ قلمه، ويفرغُ ما تُمليه عليه نفسه من أحاديثَ طالما حاولَ أنْ يجهرَ بها ، لكنّها "تروغُ منه كما يروغُ الثّعلب"، فكلمّا استجمعَ قُواه ليعلنَها، تخونُه اللّغةُ ، فيعود إلى أوراقه التّي بعثرتها نسماتٌ تغلغلتْ في مساماتِ روحه ذاتَ ليلةٍ صيفيّةٍ هانئةٍ ، يطربُه صوتُ ارتطامِ موج البحرِ بالصّخرِ، يراقبه وهو يرفعُ الموجةَ عالياً يأتي بها للشاطىءِ لكنّها تأبى فتعود إليه مرةً أُخرى، مشهدٌ يستثيرُ مشاعره، فيعدلُ عن كتابةِ ما اختلجَ في نفسه تلكَ اللّحظةِ ، هنا يُحاولُ أنْ يرتّبَ أفكارَهُ ، يسقطُ منه القلم، تساؤلات الحيرةِ تغطي كلماته كسحابةٍ صيفيّةٍ ، يُباغته سؤالٌ :
تُرى ما الذي يجعلُ الموجة تقطعُ مسافاتٍ طويلةٍ حتى تصلَ إلى السّواحل ولكنّها في النّهايةِ لا تستقر فيها، فتعودُ بسرعةٍ إلى نشأتها الأولى ؟
تخطرُ له أجوبة كثيرة ، لكنّه يراها بعيدةً عن المنطقِ ، "لعلّ ما نستثنيه أحياناً يكون هو المقصود، يقول في نفسه..."
يُرهقُه التّفكير ، وهو يربطُ المسألةَ بالجانبِ الفيزيائيّ ليكونَ تفسيره منطقياً ، فيعودُ أدراجه إلى أولى كلماته على أوراقه وهو يتأملُ مشهدَ البحرِ .................
يفرغُ من كتابةِ ما خطَّ مِداده ، يتتبعُ كلّ كلمةٍ، ليراها بحُلةٍ جديدةٍ بعدَ أنْ تركَ نفسَه على سجيتها ، تكتبُ باندفاعٍ...............
همسُ المَساءِ يُفضي حديثَهُ لغيومٍ تتندّرُ على الأرضِ، تُحاولُ جسَّ نبضِ صبرها.....
الأرضُ كرةٌ سابحةٌ في مستنقعاتِ الفوضى، أيدي البطشِ تفتكُ بها، تعيثُ فيها فساداً ، نكادُ نسمعُ آهاتها وقد استسلمتْ لأخيلتِهم، وانصاعتْ لخرافاتِهم ، صوتُ الألمِ يُمزّقُ جسدَها ، فتصرخُ مكابرةً ، فتنفثُ براكينَ من الغضبِ ، ذبذباتُ أنينها تُحْدِثُ شرخاً في جِدارِ الزّمنِ ، فتتصدّعُ أوردتها ، فيما جُذورُ الشّجنِ تغوصُ في أعماقِها ، تمتدُّ كخارطةٍ عصيّةٍ على النّسيانِ ، ترسمُ معالمها بخطوطٍ دمويّةٍ ، كسُلافٍ مُعتّقٍ، تبتلعُ آهاتِ مَنْ سكنُوا جوفها، وتمتصُ آثامَ مَنْ رقصُوا على أنينِ جِراحها ، فتلفظُ دموعها أنهاراً تتفجّرُ من حرّاتٍ مُثقلةٍ بالبؤسِ، تكظمُ غيظها، فتثيرُ خَلَد الرّاحلينَ ، تقتربُ قابَ قوسين مِنْ شَرَك الضّلالِ ، ترهقها نداءات خاوية من الحقيقة، تنادي بنصرتها وهي تمارس غواية تسعى للنيل من صمودها، غوغاء تقود بها نحو الفناء، دورة الصراع لا تنتهي، فتتوق روحها للسكون ، تضنيها أصوات الشهداء في جوفها ، تشرب دماءهم فتنشي بالعزة ، تدب فيها الحياة من جديد ، كطائر الرّخ يُولد من رمادِ بؤسه، يلهثُ نحو الخلاصِ ، فتغويه آلهةُ الخصبِ .
أدونيسُ يقبعُ في العالمِ السُّفليّ ، يسمعُ أصداءَ استغاثتها ، يخرجُ من جُبّ اليأسِ ، يمتشقُ أسلَ الحياةِ ، يُصلّي للإلهِ ، فينهمرُ الغيثُ ، يبتسمُ الشّجرُ ، وتُورِقُ الكُروم ، وتُزهِرُ مِن دمائِهِ شقائقُ النّعمانِ ...
الوطنُ كلمة أعيتْ أهلَ البلاغةِ ، فيئسوا من وصفها، حروف شكّلتْ كلمة أبعد ما تكون عن تصوُّر دراميّ لجغرافيا وهميّةٍ، ليس أرضاً فحسب ، بل هو سِرّ الحياةِ للرّوحِ ، ليسَ بكلمةِ لكنّه يتجاوزُ حدودَ الأبجديةِ ، ليسَ بحروفٍ فيتخطّى اللّغاتِ ، هو حياة ٌ تلعقُ حروفه روحاً تتشبثُ به ، تُولدُ منه وفيه ثُمّ تعودُ إليه، وهي لم تُدرِكْ كُنهه ...ولنْ تُدْركه "
سكينة خليل الرفوع