تقديم الأديب جمال عتو
نلتقي مجددا اليوم في فقرة " إضاءات نقدية " بموقع : نبض القلم للشعر والأدب مع نص قصصي قصير موسوم
ب " بر الأمان " للكاتب المصري مصطفى علاء بركات .
( بر الأمان )
من كتاب : الأرض الطيبة
بقلم / مصطفى علاء بركات
جلست فى هذا الكرسى الهزاز الذى وضعته فى هذا الركن الإستراتيجى ، لا أعرف من هذب هذا السور من نباتات و أشجار الزينة ، كيف ترك هذه المساحة الخالية جرداء بلا زرع أنها لا تزيد عن متر أنها تشوه هذا المسار الزى يزيد عن عشرون متر من أشجار خضراء و ازهار من ملونة مثل قوس قزح لماذا تركوها كالصحراء ، جلست على هذا الكرسى نعم هذا الكرسى النادر الذى اشتريته بخمسة ألاف جنيه كان فرصة لا تتكرر يعود لأحد مستشارى الملك فاروق ، إنه تحفة لا تتكرر أمسكت بهاتفى لينعكس بعض الضوء الخافت من شاشته على وجهى و نظارتى السميكة و فتحت سجل المكالمات
- أولادى ... ثلاث مكالمات
إبنى الأكبر و الوسطى و الأصغر
لا تتجاوز مكالمتهم الدقيقتان بأى حال من الأحوال
ليس عندهم وقت لأبيهم
نسوا كيف أخذت بأيديهم جميعا لبر الأمان
لم أكتفى كأى أب عادى بالتعليم و الدراسة و المعاونة على الزواج
- أحمد أول فرحتى ، منذ دخل الجامعة و أنا أعد له جدول مذاكرته ، لم أتركه حتى صار الأول على الدفعة
و كيف لا و هو ابن الدكتور رئيس القسم الحاصل على أرفع الشهادات العالمية التى فاقت باقى الأساتذة بالكلية أجمعين
و عندما أراد العمل بتلك الشركة الأجنبية حميته منها و رفضت و ارتفع ضغطي و علا صوتى و احترقت اعصابى حتى جعلته يستمر بسلك التدريس الجامعى و الأن هو أصغر دكتور بقسم الكيمياء الحيوية بالكلية
- ابنتى الوحيده منار ، الجميلة الرقيقة ، لم أتركها حتى ارتبطت بزوجها الحالى الجراح الشهير ، لا أنسى هذا اليوم الذى وقفت فيه كالأسد أمام هذا الشاب الحالم الذى أراد أن يتعسها و يحطم مستقبلها الباهر ... أراد أن يتزوجها بحجة أنه يحبها و هى أيضاً
كانت كلمتى الحاسمة ، الحب ليس فقط أساس الزواج ، الزوج الكفء الناجح هو فقط من تضمن معه استمرار حياة إبنتك المستقرة و الأن انظر لها تسير كالملكه بجوار زوجها ، يسافر معها زوجها شهر كل عام إلى خارج مصر للإستجمام أما باقى العام
فلا يمر أسبوع إلا و هو مسافر بدعوة عالمية ليشهد أو يقوم بعملية جراحية تنفذ لأول مرة ... أو يدعى كضيف شرف فى المؤتمرات العلمية و هى تحيا سعيدة هادئة مع ابنتها الصغيرة
أمل ، فى هدوء و سلام لا ينقصها شىء أموال طائلة و فيلا فخمة و سيارة خاصة لا يملكها فى المدينة إلا عشرة أفراد
- ابنى الأصغر العبقرى ، الحاصل على المركز الثانى فى مسابقة العلوم و الإختراع على مستوى الجمهورية أنا الذى رشحته لها كنا نذهب ثلاثة أيام لحضور كورس باللغة الأجنبية صيفا وشتاء دراسة و إجازة فى هذا المركز العالمى ، يستغرق الطريق ساعة ذهاب و ساعة للعودة ، و عندما كبر كم بذلت معه من جهد حتى حصل على مجموع مرتفع سمح له بدخول كلية الطب البشرى كأمه و لكنى سخرت كل اتصالاتى و علاقاتى حتى ألحقته بالقوات الجوية ، أراد من صغره أن يصبح طبيباً فلينظر الأن لصديقه الطبيب حتى الأن دخله لا يتعدى نصف دخل ابنى و لا حتى ربع الإمتيازات التى يتمتع بها إبنى
و بعد كل هذا يحضرون إلى فقط مرتين فى الاسبوع
يحضرون الأطعمة و الفاكهة التى أحبها
يجلسون معى و يطمئنون على
ما أهمية الطعام و الفواكه يمكننى شراء ما أريد
لماذا لا يستمعون إلى ؟! لا أفهم
لماذا كلما حاولت أن أنصحهم و أرشدهم لبر الأمان
لا يسمعوننى لا يسمعوننى !! لماذا لماذا ؟ لا أفهم مطلقاً !!
من المجموعة القصصية
( الأرض الطيبة )
بقلم / مصطفى علاء بركات
____________________--------------___________________
النص الذي بين أيدينا يشتغل على المفهوم الاجتماعي الخالص ودور العوامل العاطفية والنفسية في بلورته وتحيينه ليكون مناسبا للأنا في مرحلة من مراحل الحياة ، فبطل القصة رجل تقدم به السن يجلس ذات لحظة على كرسيه الهزاز الناذر الذي اقتناه بمبلغ مهم لأنه يعود لأحد مستشاري ملك ينظر متحسرا إلى مساحة خالية من الزرع وقد هذبت نباتاتها كثيرا ليبدو لنا أنه رجل ميسور وذواق ومرهف الإحساس ، هذه الحسرة سيندثر وقعها أمام حسرة كبرى عندما يتحسس هاتفه فيجد ثلاث مكالمات مسجلة لثلاثة أبنائه لا تتجاوز مدتها الدقيقتين ، فيسرح باله كثيرا في هذا الموقف كيف أنه ضحى بكل ما يملك في سبيل تربيتهم وتعليمهم وتوجيههم والأخذ بأيديهم إلى شاطىء الأمان وصارو ذوي الحظوات الاجتماعية فلم ينل من وراء ذلك إلا زيارات منهم متقطعة جالبين له الفواكه والأطعمة وهو الرجل الميسور الذي لا يعوزه شيء من هذا القبيل ، هذا الأب وقد بلغ من العمر الذي يصبح فيه صاحبه حكيما ومتبصرا لم تعد نصائحه وتوجيهاته تجدي لدى أبنائه وقد أصبح لا يفهم مواقفهم تماما .
الحالة النفسية التي يعيش لحظاتها الشيخ تطرق أبواب قصتنا بقوة ، فالأب هاهنا لايريد من أبنائه شيئا سوى وضعه في مكانته اللائقة كما يراها هو أو كما يراها المجتمع الذي تربى على أصول العلاقة الأبوية ، فالأب لم يكن محتاجا للطعام كمظهر من مظاهر اهتمام الأبناء به ، بل هو محتاج لكي يستمعوا إليه في توجيهاته ونصائحه كما كانوا يفعلون عندما كانوا يبحثون عن سبل العيش الكريم ، فماذا تغير ؟
ثم أن هذا الأب في شعوره الباطني يعتبر أبناءه ملكا له وحده ، فكما يبدو في نص القصة أن أبناءه تموقعوا في مكانات اجتماعية مهمة تتطلب منهم التفرغ لأعمالهم وارتباطاتهم والتزاماتهم المتعددة وهم يقتصرون على زيارته مرتين في الأسبوع ويهاتفونه كما رأينا ، لكن هذا لم يكن كافيا في نظر والدهم لانهم فقط لا يستشيرونه او لا يعملون بنصائحه .
الوضع الذي لا يريد بطل القصة أن يفقده هو انعكاس لإحساس نفسي بذبول المكانة الأبوية ، وهذا بالضبط لم ينتبه إليه الأبناء ولو بمجاملة ظاهرية .
استرجاع ذاكرة البطل نحو الماضي وكيف أنه ضحى بالغالي والنفيس في سبيل ارتقاء أبنائه اجتماعيا هو ليس في حد ذاته استرجاع مبطن للمن ، بل هو رد فعل طبيعي منه أمام تنكرهم لتوجيهاته عندما بلغ من العمر عتيا .
فهل يظل الأبناء يستمعون لتوجيهات آبائهم في مراحلهم العمرية المختلفة ، وهل يعد هذا واجبا اجتماعيا كما نراه في مجتمع القبيلة ، أم أنه أمر عادي أن يستغنوا عن ذلك متفرغين بدورهم إلى توجيه الخلف في صيرورة الحياة التي لا تقبل التوقف .
ما يطلبه الآباء في النهاية هو الاهتمام المعنوي ولو بالاستماع الى أقوالهم ، فالمرحلة المتقدمة من العمر يقل فيها كل شيء ، ويحس صاحبها بأنه يتوارى الى الخلف بل يشعر أنه أصبح يؤثث فضاء المنزل بجلسته المعهودة وصمته المطبق والركون الى ماضي الأيام الخوالي .
نص كاتبنا عكس ظاهرة الشيخوخة ووجوب الاعتناء بها بذكاء اجتماعي بالغ وهو الأمر الذي نجح فيه باستدعاء المفهوم النفسي ، وكذا الحوار الداخلي الذي يعكس حيرة بالغة يعيشها الأب .
النص استجاب الى محاور القصة من زمان ومكان وشخوص وبداية ونهاية .
أسلوب القصة جنح الى السلاسة المعهودة في كتابة مصطفى علاء بركات والتطرق إلى التفاصيل المشهدية والدقة للوصول إلى المعنى المقصود .
ويبقى نصنا لهذا اليوم عميقا مادام تطرق لمسألة الشيخوخة وعلاقة الأبناء بالأب والوحدة والعزلة والاستغناء والركون الى ذكريات الماضي وحلول الضعف بعد القوة والسلبية بعد الأداء .
إلى نص آخر في الأسبوع القادم وقلم آخر نستودعكم الله.
دمتم .