قصة من واقع ثورتنا المجيدة :
نوفمبريات
استند إلى جدار المسجد ينتظر صلاة العصر، وكنت مارا من هناك، فسلّمت عليه فأمسك بيدي وقال اجلس إلى جانبي أروي لك قصة عن ثورة التحرير ، فجلست إلى جانب عمي محمد المجاهد وكنت أمسك بكيس بلاستيكي به تمرا، فناولته مجموعة منها وبدأ حديثه الشيّق :
في خريف الثامن والخمسين بعد المائة التاسعة والألف كنا في جبال أم الكماكم المتاخمة لجبال الجرف الشهيرة في الشرق الجزائري قدم إلينا ثلّة من مجاهدي الأوراس الأشم من تونس الشقيقة بعد فترة علاج لهم هناك من جروح أصيبوا في معارك طاحنة بين المجاهدين والمستدمر الغاشم ، فلم ينل منهم القليل ولا الكثير، فأصبح يرميهم بقنابل النابالم المحرقة ، فتركت حروقا بليغة فيهم ، فما عليهم إلا التوجّه إلى الشقيقة تونس لمعالجة آثار الحروق وعند عودتهم يحملون معهم ما استطاعوا من أسلحة وذخيرة إلى الأوراس ومنها إلى بقية المناطق الأخرى ، فكان علينا وبأمر من قيادتنا ومساعدتهم في حمل السلاح والتوجه بهم إلى حدود ولايتهم ثم العودة من جديد إلى الحدود ، لكن يومها استطاع أحد الخونة وهو معروف في المنطقة من كشف آثارهم بعد أن تتبّعها إلى الحدود التونسية ومعه قوات المستدمر الفرنسي حتى وصلوا بجانب خط شال الشائك بيننا وبين الشقيقة تونس ، فوقف الحركي هنيهة ثم استدار وعينه على آثار أقدام المجاهدين المتوجهة إلى تونس ، فانكب على الآثار يشمّها وقفل راجعا يحبو وأنفه في الأرض والقوات تتبعه في ذهول ، ثم انتصب واقفا وقال بالفرنسية مخاطبا ضابطا ساميا كان يتبعه : لقد خدعونا ، لقد خدعنا الفلاّقة سيدي ، لقد انتعلوا أحذيتهم بالمقلوب وربطوها بالخيوط حتى تبدو لنا أنها متجهة إلى الشرق بينما هي متجهة إلى الغرب ، ثم انطلق يجري مرّة وأخرى على الأرض يشم الآثار كأنه كلب بوليسي درّب على الشمّ ، وما هي إلا سويعات حتى سمعنا طائرات عمودية تحوم في الأفق ومعها طائرة صفراء للاستطلاع ، فقال القائد : لقد اكتشف الغزاة آثار الإخوة القادمين من تونس ، وعليكم الاستعداد للمعركة وحماية إخوانكم وإخراجهم من المعركة سالمين بل وتبليغهم إلى حدود ولايتهم ، كانت الكلمات مقتضبة وشديدة الحماس ونادى الله أكبر...فكبّر المجاهدون وراءه .
وسرعان ما تسارع الزمن وظهرت قوات العدو غير بعيد في المنحدر تريد تجاوز واد المشرع وبينما تمركزنا وراء صخور جبل أم الكماكم نراهم ولا يرونا ولكن طائرة الاستطلاع تحوم كل مرة على سفح الجبل تكاد تلامس أرضه لتكشف خبايانا وتحذر قوات الحلف الأطلسي ولكنها فشلت لأننا كنا نرتدي ملابس تمويهية تشبه الصخور في لونها المائل إلى السمرة وهذا ليس ذكاء منا ولكن عناية الخالق بنا ولون القشابية المخططة الأسود والبني التي اشتهر بها المجاهدون ،وتقدّمت القوات والحركي أمامهم ، فسمعت قائدنا يوجّه الكلمة إلى حسين المعروف بتسديداته الثابتة وقال له : ها قد جاءتك الفرصة لتتخلّص من الخائن يا سي حسين ، ولم يرد عليه بل سمعت طلقة نار دوّت لها الجبال ولها صليل السيوف عند خروجها من غمدها ، والتفت بسرعة إلى جهة العدوّ فرأيت الحركي يسقط على قفاه وانبطح الكل وتم الردّ علينا ولكن في الصخور ونحن نطل بين الحين والآخر من جهات مختلفة حول الصخور عندها تم استدعاء الطائرات العمودية وأمطرونا بوابل من رصاصها فترى الصخور تتفتّت لهوله ، وأمرنا قائدنا حينها بالردّ على الطائرات بطلقات متقطعّة ومركّزة وحمى وطيس المعركة وعلا دخانها ، وتم الردّ على الرصاص بالرصاص والنحاس وغلا الدم في العروق وفاض وخرج على الأرض ليسقيها بعد خريف جاف لم يمطر ، كان السقوط من الجانبين ولكننا كنا الأقلية لاحتمائنا وراء الصخور وفي السفح بينما كان المستدمر مكشوفا وفي الأسفل ، فنلنا منه لولا الطائرات العمودية التي أفشلت رصاصاتنا فكانت ترمينا بجحيم من الرصاص بل وتم استدعاء القاذفات ، وهنا نادى القائد بالانسحاب إلى الجرف تدريجيا ودون إثارة شكوك المستدمر مادام الوقت نهارا فإن جنّ الليل سيرمون الأضواء الكاشفة ويصطادوننا كالفئران ، وفعلا بدأ التسلل فرادى ونحن نراقب الوضع ولا نتوقف عن الرماية حتى يظن العدوّ أننا مازلنا في المكان ، عندها كشفت طائرة عمودية كانت تحلّق على انخفاض مكان جندي من الأوراس فرمته بوابل من نيرانها وكان قريبا مني ، فتطايرت صخور بازلتية قسمتها الرصاصات فأضحت سيوفا وخناجر وإصابته في مرفقه الأيسر وقسمت العظم ولكن الذراع مازالت تتدلى ولم تسقط منه ، فاستند على الصخرة مواجها إلي وهو يمسك برشّاش ألماني من الحرب العالمية الثانية ويوجهه صوب الطائرة العمودية ويفرغ فيها مخزونا كاملا من سلسلة الرصاص ، كنت مشدوها للمنظر ولشجاعة المجاهد وقوته في إمساك الرشّاش فلم أفعل شيئا سوى النظر إليه فسمعت الرصاصات تصطدم بجسم الطائرة وتبعها دخان أسود وبابها الأيمن يفتح وقبطانها يرمي نفسه منها يحاول فتح مظلّته لكن الأرض قريبة جدا فارتطم بالصخور وعانقت جثته فصحت من غير وعي الله أكبر أردّدها ، والتفت إلي المغوار فرأيته يسقط رشاشه من يده ويرفع يده اليسرى المتدلية بيمناه ويضعها بين صخرتين ثم يعض بأسنانه طرف عمامته ويجذب عضده بكل قوته فتخرج من غير ذراع وتتدلّى منها عصب أصفر اللون يكسوه الدم ، ثم ينحني على الرشّاش ويحمله بيده اليمنى ويقرّب ماسورته الحمراء من الجرح ويضعها على مكان المرفق فصاح صيحة شديدة وهوى على الأرض وسارعت إليه أمسك رأسه حتى لا يرتطم بالصخور وفعلا وصلت في الوقت المناسب ورأيت الجرح وقد اكتوى بحرارة الماسورة فالدخان مازال يتصاعد منه وهو مغشي عليه ، فحملته على ظهري وحملت سلاحه وانحدرت من السفح إلى وادي بين الصخور متسللا مرة وزاحفا مرة أخرى ، حتى غادرت أرض المعركة وقد أطبق الظلام على المنطقة ، فأوصلته إلى مركزنا بجبال الجرف وتم تضميد جراحه وأنا أراقبه هل مازال على قيد الحياة أم فارقها ، ولكن الطبيب رأى ذهولي وحب استطلاعي وقال : لن يموت في هذه المعركة فدورته مازالت تنتظر. ونادى المؤذّن للصلاة وساعدت عمي محمد على النهوض لندخل المسجد سوية على أن يروي لي قصة أخرى في وقت آخر.
كلمات مفتاحية :
الأوراس : سلسلة جبال في الشرق الجزائري عرفت بانطلاق الثورة التحريرية ، ووعورتها
شال : خط شائك مكهرب من الشمال إلى حدود الصحراء الشرقية في الجزائر يفصل بين تونس والجزائر على غرار خط موريس في الغرب لفصل المغرب عن الجزائر.
القشّابية : لباس تقليدي ينسج من الصوف أو الوبر تختلف ألوانه بين الأسود والرمادي إلى الأبيض يلبس شتاء اتقاء البرد والثلوج
حمادي أحمد آل حمزة الجزائر