الأحد، 10 مارس 2024

Hiamemaloha

ق.ق حبيبة ومدينة للأديب ربيع دهام

 (حبيبةٌ ومدينة/ربيع دهام)


وأنا أسير كالمعتاد من غرفتي إلى المطبخ، ومن المطبخ إلى غرفتي،

ومن الصالون إلى الشرفة، ومن الشرفة إلى الصالون، ومن شاشة الجوّال إلى شاشة التلفاز،

أبحث عن طعامٍ، أو عن شرابٍ، أو عن منظرٍ ما، أو حدثٍ ما، 

أو اجتياحٍ ما، أشتّتُ به ذهني، علّه ينقذني من رطوبة الحنين المعششة 

كالطحالب في تفكيري، أراني أدور حول نفسي كفأرٍ وعَجَلة. 

ما إن يزداد فراري منكِ سرعةً، ومسافةً، حتى يتآمر طرفا الزّمانِ عليَّ، 

فيقطع غدي موعداً مسبقاً مع سالِفي.

مع زمانٍ رحلَ. مع الماضي حيث أنتِ.

ومع التاريخ حيث أنتِ ... وأنتِ... وأنتِ.

وأنا أسير كالمعتاد حول الأرائك والمناضد، وبين الصور، وفوق الرخام،

وتحت السقف الخشبي المرصوف فوقي كأنه نعشي، لا شيء يبقى  

يرنّ في بالي إلا صوتكِ.

ولا شيء أراه في الصوَر إلا وجهكِ.

ولا عطراً يتغلغل في مسام الجسد إلا عطركِ.

حتى، حتى السيَّارات في الشارع تحت بيتنا، لا أراها إلا وأنت تقودينها 

بمهارة مثلما كنتِ.

أراك على كرسي القيادة،

وعلى الكرسي إلى جانب السائق لمّا كنت تجلسين، 

وأنا أقود.

وأسمعك بتبجُّحٍ تقولين لي: 

" أيها السائق الفاشل تنحّى جانباً. أنا أشطر منك".

حتى. حتى فناجين القهوة. تلك التي استحمّت بالفوطة وسوائل الجلي بعد

رحيلك آلاف المرات، أبت أن تنزع عن جلدها السيراميكي بصمات 

أصابعك. 

حتى أحمر شفتيك ما زال مدبوغاً عليها كما الوشمِ. 

حتى التفل الذي تركتِه في جوفها، حفر وتده في العمق هناك، ونصب خيمه، وأبداً ما 

رحل.

أما المدينة. آهٍ من المدينة. 

فكل مقهى لكِ أنتِ فيها ذكرى. 

وكل زقاقٍ لك فيه صورة. 

وكل قاعة سينما لك ولي فيها غمرة، وقبلة.

وهناك، أتذكرين هناك؟ 

قرب مطعمنا المفضّل. 

حيث مثل الأطفال آخر مرة تخانقنا، ومثل الأعداء تشاجرنا، وافترقنا؟ 

ورحتُ أبحث عنكِ بين زحمة الأجساد دون جدوى.

وأمشي وألهث وأركض. 

ولما رأيتك وقبضتُ عليك متلبّسةً بالبحث عنّي، كما كنت أنا أبحث عنك، وسألتك: 

- ما بك؟ أأضعتِ شيئاً؟

قلتِ لي بابتسامة المكر على خدّيكِ: 

- أضعتُ يدي الثانية.

- هذه يدك الثانية، قلت لك، مشيراً بسبّابتي إلى يدك الأخرى.

فاقتربتِ مني وأجبتِ: 

- بل هذه يدي الثانية، ومسكتِ يدي وشددتِ

 عليها.

فمسكتكِ وعاتقتك. وعانقتِني.

واليوم. اليوم ها أنا ذا، 

أمضي فتات هذا العمر وحدي.

 برحيلك يا حبيبتي، قد رحلت كل المدينة.

لا. بل رحلت المدينة، وبقيتِ أنتِ.

لا! بل صارت المدينة كلها أنتِ. 

وفي الأمس، لمّا قررتُ أن أزور قبرك، ويا لدهشتي، نظرت إلى الشاهدة، 

فلم أرَ حروف اسمك عليها.

 بل لم أجد أي أثرٍ لك في المدفن هناك. 

بل ربما. بل وأعتقد. بل وحتماً يا حبيبتي، سيظلُّ ذلك المدفن المكانَ الوحيدَ الذي لن أجدك أبداً فيه.

Hiamemaloha

About Hiamemaloha -

هنا تكتب وصفك

Subscribe to this Blog via Email :